التّفسير
يواصل القرآن مخاطبة المشركين، ففي الآيات السابقة دار الكلام حول التوحيد وعبادة الله الأحد وهنا يدور الحديث عن المعاد، وبالإِشارة إِلى مبدأ التوحيد يواصل القول عن المعاد بطريقة رائعة، هي طريقة السؤال والجواب، والسائل والمجيب كلاهما واحد، وهو من الأساليب الأدبية الجميلة.
يتكون الإِستدلال هنا على المعاد من مقدمتين:
أوّلا: يقول: (قل لمن ما في السموات والأرض).
ثمّ يقول مباشرة: أجب أنت بلسان فطرتهم وروحهم: (قل لله)، فبموجب هذه المقدمة يكون كل عالم الوجود ملكاً لله وبيده وتدبيره.
ثانياً: إِنّ الله هو وحده مصدر كل رحمة، وهو الذي أوجب على نفسه الرحمة، ويفيض بنعمه على الجميع: (كتب على نفسه الرحمة).
أيمكن لربٍّ هذا شأنه أن يقطع سلسلة حياة البشر نهائياً بالموت فيوقف التكامل واستمرار الحياة؟ أيتفق هذا مع مبدأ كون الله "فياضاً" و"ذا رحمة واسعة"؟ أيمكن أن يكون قاسياً على عباده بهذا الشكل، وهو مالكهم ومدبر شؤونهم، بحيث أنّهم بعد مدّة يفنون ويتبدلون إِلى لا شيء؟
طبعاً لا، إِذ أنّ رحمته الواسعة توجب عليه أن يسير بالكائنات - وخاصة البشر - في طريق التكامل، بمثل ما يجعل برحمته من البذرة الصغيرة الزهيدة شجرة ضخمة قوية، أو يحيلها إِلى شجيرة ورد جميلة، كما أنّه بفيض رحمته يبدل النطفة التافهة إِلى انسان كامل، هذه الرحمة نفسها توجب أن يرتدي الإِنسان - الذي عند امكانية الخلود - لباس حياة جديدة بعد موته في عالم أوسع، تدفعه يد الرحمة في سيره التكاملي الأبدي، لذلك يقول بعد هاتين المقدمتين: (ليجمعنّكم إِلى يوم القيامة لا ريب فيه).
إنّ الآية تبدأ بالإِستفهام التقريري الذي يراد به انتزاع الإِقرار من السامع، ولمّا كان هذا الأمر مسلماً به بالفطرة، كما كان المشركون يعترفون بأنّ مالك عالم الوجود ليس الأصنام، بل الله، فإنّ الجواب يرد مباشرة، وهذا أسلوب جميل في عرض مختلف المسائل.
في مواضع أُخرى من القرآن يستدل على المعاد بطرق أُخرى، بطريق قانون العدالة، وقانون التكامل، والحكمة الإِلهية، ولكن الإِستدلال بالرحمة إستدلال جديد جاءت به هذه الآية.
في نهاية الآية إِشارة إِلى مصير المشركين المعاندين وعاقبتهم، فهؤلاء الذين أضاعوا رأس مال وجودهم في سوق تجارة الحياة، لا يؤمنون بهذه الحقائق: (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون).
ما أعجب هذا التعبير! فقد يخسر المرء أحياناً ثروته أو مركزه أو أي نوع آخر من أنواع رأس المال، ففي هذه الحالات يكون قد خسر شيئاً، ولكن هذا الشيء الذي خسره لا يكون جزءاً من وجوده، أي أنّه خارج وجوده، أمّا أعظم الخسائر التي هي في الواقع الخسارة الحقيقية، فهي عندما يخسر الإِنسان أصل وجوده.
إِنّ أعداء الحقيقة والمعاندين يخسرون تماماً رأس مال العمر ورأس مال الفكر والعقل والفطرة وجميع المواهب الروحية والجسمية التي كان ينبغي لهم أن يستخدموها في طريق الحقّ للوصول إِلى مرحلة التكامل، وعندئذ لا يبقي رأس المال ولا صاحبه.
لقد ورد هذا التعبير في عدد من آيات القرآن الكريم، وهي تعبيرات مرعبة عن المصير المؤلم الذي ينتظر منكري الحقيقة والمذنبين الملوثين.
سؤال:
قد يقال: إِنّ الحياة الأبدية تكون مصداقاً للرّحمة بالنسبة للمؤمنين فقط، أمّا لغيرهم فهي لا تعدو أن تكون شقاء وتعاسة.
الجواب:
لا شك أنّ الله هو الذي يوفر فرص الرحمة، فهو الذي خلق الإِنسان، ووهب له العقل، وأرسل له الأنبياء لقيادته وهدايته، ومنحه مختلف أنواع النعم، وفتح أمامه طريقاً للحياة الخالدة، فهذه كلّها ألوان من الرحمة.
والإِنسان في غضون مسيرته للوصول إِلى ثمرات هذه الرحمة إِذا انحرف عن طريق وحول هذه الرحمة إِلى عذاب وشقاء، فإنّ ذلك لا يخرجها عن كونها رحمة، بل الإِنسان هو الملوم على الإِنحراف عنها وتبديلها إِلى عذاب وألم.
﴿قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ ملكا وخلقا سؤال تبكيت ﴿قُل لِلّهِ﴾ إذ لا جواب غيره بالاتفاق ﴿كَتَبَ﴾ أوجب ﴿عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ التي منها اللطف بكم بنصب الأدلة على توحيده في الدنيا وإثابة مطيعكم في الآخرة ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ قسم للوعيد على إشراكهم وترك النظر ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أي فيه أو مبعوثين إليه فيجازيكم بعملكم ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ في اليوم ﴿الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ أهلكوها بتعريضها للعقاب لاختيارهم الكفر نصب ذما أو رفع خبرا أي أنتم الذين أو مبتدأ خبره ﴿فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.