التّفسير
لا ملجأ غير الله!
من المفسّرين من يذكر أنّ سبب نزول الآية هو أنّه جاء جمع من أهل مكّة إِلى رسول الله (ص) وقالوا: يا محمّد، إِنّك تركت دين قومك، ولم يكن ذلك إِلاّ بسبب فقرك، فاقبل منّا نصف أموالنا تكن غنياً على أن تترك آلهتنا وشأنها وتعود إِلى ديننا، فنزلت هذه الآية ترد عليهم (1).
سبق أن قلنا: إِنّ آيات هذه السورة نزلت مرّة واحدة في مكّة، كما جاء في الأخبار المروية، لذلك لا يمكن أن يكون لكل منها سبب نزول خاص، غير أنّ أحاديث كانت قد جرت قبل نزول هذه السورة بين رسول الله (ص) والمشركين وبعض هذه الآيات تشير إِلى تلك الأحاديث، لذلك ليس ثمّة ما يمنع أن تكون أحاديث من هذا القبيل أيضاً قد جرت بين رسول الله (ص) والمشركين، فيشير القرآن في هذه الآيات إِلى أحاديثهم ويرد عليهم.
على كلّ حال، الهدف من نزول هذه الآيات هو إِثبات التوحيد ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام فالمشركون، وإِن اعتقدوا أنّ الله هو خالق العالم، كانوا يتخذون من الأصنام ملجأً لأنفسهم، ولربّما اتخذوا صنماً لكل حاجة معينة، فلهم إله للمطر، وإِله للظلام، وإله للحرب والسلم، وإله للرزق، وهذا هو تعدد الأرباب الذي ساد اليونان القديم.
ولكي يزيل القرآن هذا التفكير الخاطىء، يأمر رسول الله (ص) أن (قل أغير الله اتّخذ ولياً فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم).
فإذا كان هو خالق عالم الوجود كله دون الإِستناد إِلى قدرة أُخرى، وهو الذي يرزق مخلوقاته، فما الذي يدعو الإِنسان إِلى أن يتخذ من دونه ولياً وربّاً؟ وإنّ كل الأشياء غيره مخلوقات وهي بحاجة إليه في كل لحظات وجودها، فكيف يمكن لها أن تقضي حاجة الآخرين؟
هذه الآية تستعمل كلمة "فاطر" في حديثها عن خالق السموات والأرض، وأصل "الفطر" و"الفطور" هو الشق، يروى عن ابن عباس أنّه قال: ما عرفت معنى فاطر السموات والأرض إِلاّ عندما رأيت اعرابيين يتنازعان على بئر قال أحدهما: "أنا فطرتها" أي أنا أحدثتها وأو جدتها.
ولكننا اليوم أقدر من ابن عباس على معرفة معنى "فاطر" بالإِستعانة بالعلوم الحديثة، أنّه تعبير ينسجم مع أدق النظريات العلمية الحديثة عن تكون العالم، لقد أظهرت دراسات العلماء أنّ العالم الكبير (الكون) والعالم الصغير (المنظومة الشمسية) كانت كلها كتلة واحدة تشققت على أثر الإِنفجارات المتتالية، وتكونت المجرات والمنظومات والكرات، وفي الآية (30) من سورة الأنبياء بيان أوضح لهذا الأمر: (أو لم ير الذين كفروا أنّ السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما).
والنقطة الأُخرى التي ينبغي ألا نغفل عنها في هذه الآية هو أنّها تقتصر على توكيد إتصاف الله باطعام مخلوقاته ورزقهم، ولعل ذلك إِشارة إِلى أنّ أقوى حاجات الإِنسان في حياته المادية هي حاجته إِلى "لقمة العيش" كما يقال، وهذه اللقمة هي التي تحمل الناس على الخضوع لأصحاب المال والقوّة، وقد يصل خضوعهم لأُولئك حدّ العبودية، ففي هذا يقرر القرآن رزق الناس بيد الله لا بيد هؤلاء ولا بيد الأصنام، فأصحاب المال والقوّة هم أنفسهم محتاجون إِلى الطعام، وأنّ الله هو وحده الذي يطعم الناس ولا يحتاج إِلى طعام.
وفي آيات أُخرى نرى القرآن يؤكّد مالكية الله ورازقيته بإنزال الأمطار وإِنبات النباتات، وذلك لكي يزيل من أذهان البشر كلياً فكرة اعتمادهم على مخلوقات مثلهم.
ثمّ للردّ على أُولئك المشركين الذين كانوا يدعون رسول الله إِلى الإِنضمام إِليهم، يؤكّد القرآن على ضرورة رفض دعوة هؤلاء إِنطلاقاً من مبدأ نهي الوحي الإِلهي عن ذلك، إِضافة إِلى نهي العقل: (قل إِنّي أُمرت أن أكون أوّل من أسلم ولا تكونن من المشركين) (2).
لا شك أنّ أنبياء الله والصالحين من أقوامهم سبقوا النّبي الخاتم في استسلامهم لأمر الله وعليه فإن قوله تعالى: (إِنّي أُمرت أن أكون أوّل من أسلم) يعني أوّل مسلم من أُمّة الرسالة الخاتمة.
كما أنّ هذا إِشارة إِلى أمر تربوي مهم أيضاً، وهو أنّ كل قائد ينبغي أن يكون في تطليق تعاليم دينه قدوة وطليعة، عليه أن يكون أوّل المؤمنين برسالته، وأوّل العاملين بها، وأكثر الناس اجتهاداً فيها، وأسرعهم إِلى التضحية في سبيلها.
﴿قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾ معبودا قدم لفظ غير وولي الهمزة لأن الإنكار لاتخاذ غير الله وليا لا اتخاذ الولي ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ مبدعهما ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ﴾ يرزق ولا يرزق وخص الطعام لشدة الحاجة إليه ﴿قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ﴾ لله من أهل عصري ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ﴾ أي قيل لي لا تكونن ﴿مِنَ الْمُشْرِكَينَ﴾.