التّفسير
أشدّ الظّلم:
تواصل هذه الآيات المنهج القرآني في مقارعة الشرك وعبادة الأصنام بشكل شامل، تقول الآية الاُولى بصراحة وبصورة استفهام إِستنكاري: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته) ؟
الجملة الأُولى - في الواقع - إِشارة إِلى إنكار التوحيد، والثّانية إِشارة إِلى إِنكار النّبوة... حقّاً لا ظلم أكبر من أن يتخذ المرء قطعة جماد لا قيمة لها، أو إِنساناً ضعيفاً مثله شريكاً لربّ لا تحدّه، حدود، وله الحكم على كل عالم الوجود، فهذا ظلم من جهات ثلاث: ظلم لذات الله بالقول بوجود شريك له، وظلم للشخص نفسه بالحط من قدره إِلى حد السجود والخضوع لقطعة حجر أو خشب، وظلم بحق المجتمع الذي يسبب له الشرك والتشتت والتفرق والإِبتعاد عن روح الوحدة والتوحد.
فلا شك إِذن في أنّ أي ظالم - وعلى الأخص أُولئك الذين لظلمهم جوانب متعددة - لا يمكن أن يرى السعادة والفلاح: (إِنّه لا يفلح الظالمون).
إِنّ لفظة "الشّرك" لم ترد صراحة في الآية، ولكن بأخذ الآيات السابقة واللاّحقة لها بنظر الاعتبار التي تدور حول الشرك، يتّضح أنّ القصد من كلمة "إفتراء" هو القول بوجود شريك لله سبحانه.
وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يصف في خمسة عشر موضعاً بعض الناس بأنّهم من أظلم الناس في سياق الإِستفهام: "ومن أظلم..." أو "فمن أظلم..." وعلى الرغم من أنّ معظم تلك الآيات تتناول الشرك وعبادة الأصنام وإِنكار آيات الله، أي أنّها تدور حول التوحيد، فإنّ بعضاً آخر منها يدول حول أُمور أُخرى، مثل (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) (1).
وقول سبحانه (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) (2).
هنا يثار هذا السّؤال: كيف يمكن أن تكون كل طائفة من هؤلاء أظلم الناس، في حين أنّ صفة (الأظلم) لا يمكن أن تنطبق إِلاّ على طائفة واحدة منها؟
نقول في الجواب: كل هذه الحالات تستقي - في الحقيقة - من منبع واحد، وهو الشرك والكفر والعناد.
فمنع الناس من ذكر الله في المساجد والسعي في خرابها دليل على الكفر والشرك، وكتمان الشهادة أي كتمان الحقائق المؤدي إِلى حيرة الناس وضلالهم، هو معلم من معالم الشرك وإنكار وحدانية الله.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا﴾ بنسبة الشريك إليه ﴿أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ كالقرآن ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾.