لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير لإِتساع البحث حول هذه الآية، سنبدأ بشرح ألفاظها، ثمّ نفسّرها بصورة إِجمالية، ثمّ نتناول سائر جوانبها بالبحث. "الدّابة" من "دبّ" والدبيب المشي الخفيف، ويستعمل ذلك في الحيوان والحشرات أكثر، وقد ورد في الحديث "لا يدخل الجنّة ديبوب" وهو النمام الذي يمشي بين الناس بالنميمة. "الطائر" كل ذي جناح يسبح في الهواء، وقد يوصف بها بعض الأُمور المعنوية التي تتقدم بسرعة واندفاع، والآية تقصد الطائر الذي يطير بجناحيه. "أُمم" جمع أُمّة، وهي كل جماعة يجمعهم أمر ما، كالدين الواحد أو الزمان الواحد أو المكان الواحد. "يحشرون" من "حشر" بمعنى "الجمع"، والمعنى الوارد في القرآن يقصد به يوم القيامة، وخاصة لأنّه يقول: (إِلى ربّهم). هذه الآية تستأنف ما جاء في الآيات السابقة من الكلام مع المشركين وتحذيرهم من مصيرهم يوم القيامة، فتتحدث عن "الحشر" وبعث عام يشمل جميع الكائنات الحية والحيوانات، فتقول أولا: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إِلاّ أُمم أمثالكم). يتّضح من هذا أنّ فصائل الحيوان والطيور أُمم مثل البشر، غير أنّ للمفسّرين أقوالا مختلفة بشأن وجه الشبه في هذا التمثيل. بعض يقول: إِنّ التشابه يختص بأسرار خلقتها العجيبة التي تدل على عظمة الخالق سبحانه. وبعض آخر يرى التشابه في حاجاتها الحياتية المختلفة وفي طرق سد تلك الحاجات وإِشباعها. ومنهم من يعتقد أنّ التشابه كائن في تشابه الإِدراك والفهم والمشاعر، أي أنّ للحيوان والطير أيضاً - إِدراكه ومشاعره في عالمه الخاص، ويعرف الله ويسبح له ويقدسه بحسب طاقته، وإن تكن قوّة إِداركه أدنى ممّا في الإِنسان، ثمّ إِنّ ذيل هذه الآية - كما سيأتي بيانه - يؤيد هذا الرأي الأخير. ثمّ تقول الآية: (ما فرطنا في الكتاب من شيء). لعل المقصود بالكتاب هو القرآن الذي يضم كل شيء (ممّا يتعلق بتربية الإِنسان وهدايته وتكامله) يبيّنه مرّة بياناً عاماً، كالحث على طلب العلم مطلقاً، ومرّة بياناً تفصيلياً كالكثير من الأحكام الإِسلامية والقضايا الأخلاقية. ثمّة إِحتمال آخر يقول: إِنّ المقصود بالكتاب هو "عالم الوجود" إِذ أنّ عالم الخليقة مثل الكتاب الضخم، يضم كلّ شيء ولا ينسى شيئاً. ليس ثمّة ما يمنع من أن تشمل الآية كلا التّفسيرين، فالقرآن لم يترك شيئاً تربوياً إِلاّ وذكره بين دفتيه، كما أنّ عالم الخليقة يخلو من كل نقص وعوز. وتختم الآية بالقول: (ثمّ إِلى ربّهم يحشرون). يظهر أنّ ضمير (هم) يعود إِلى الدواب والطير على اختلاف أنواعها وأصنافها، أي أنّ لها - أيضاً - بعثاً ونشوراً، وثواباً وعقاباً، وهذا ما يقول به معظم المفسّرين، إِلاّ أنّ بعض المفسّرين ينكرون هذا، ويفسّرون هذه الآية والآيات المشابهة تفسيراً آخر، كقولهم: إِنّ معنى "الحشر إِلى الله" هو الموت والرجوع إِلى نهاية الحياة (1). ظاهرالآية يشير - كما قلنا - إِلى البعث والحشر يوم القيامة. من هنا تنذر الآية المشركين وتقول لهم: إِنّ الله الذي خلق جميع الحيوانات ووفر لها ما تحتاجه، ورعى كل أفعالها، وجعل لها حشراً ونشوراً، قد أوجد لكم دون شك بعثاً وقيامة، وليس الأمر كما تقول تلك الفئة من المشركين من أنّه ليس ثمّة شيء سوى الحياة الدنيا والممات. ملاحظات: 1 - هل هناك بعث للحيوانات؟ ما من شك أنّ الشّرط الاُوّل للمحاسبة والجزاء هو "العقل والإِدراك" ويستتبعهما (التكليف والمسؤولية". يقول أصحاب هذا الرأي: إِنّ لديهم ما يثبت أن للحيوانات إِدراكاً وفهماً بمقدار ما تطيق، ومن ذلك أن حياة كثير من الحيوانات تجري وفق نظام دقيق ومثير للعجب، ويدلّ على إِرتفاع مستوى إدراكها وفهمها، فمن ذا الذي لم يسمع بالنمل والنحل وتمدّنها العجيب ونظامها المحير في بناء بيوتها وخلاياها، ولم يستحسن فهمها وإِدراكها؟ فعلى الرغم من أنّ بعضهم يعزوا ذلك كله إِلى نوع من الالهام الغريزي، فليس ثمّة دليل على أنّ هذه الأعمال تجري بصورة غريزية لا عقلية. ما الدليل على أنّ هذه الأعمال - حسبما يدل ظاهرها - ليست ناشئة عن تعقل وإِدراك؟ كثيراً ما يحدث أنّ الحيوان يبتكر - إِستجابة لظرف من الظروف - شيئاً لم يسبق له أن مرّ به وجربه، فالشاة التي لم يسبق لها أن رأت ذئباً في حياتها تفزغ منه أوّل ما تراه وتدرك خطره عليها، وتتوسل بكل حيلة لدرء خطره عنها. إِن العلاقة التي تتكون بين الحيوان وصاحبه تدريجياً دليل آخر على هذا الأمر، فكثير من الكلاب المفترسة الخطرة تعامل أصحابها - بل وحتى أطفالهم - كما يعاملهم الخادم العطوف. ويحكى الكثير عن وفاء الحيوانات وعن تقديمها كثيراً من الخدمات الإِنسانية ولا شك أنّ هذه أُمور ليس من السهل اعتبارها ناشئة بدافع الغريزة، إِذ إِنّ الغريزة تنشأ عنها أعمال رتيبة من طراز واحد باستمرار، أمّا الأعمال التي تقع في ظروف خاصّة كردود فعل لحوادث طارئة غير متوقعة، فهذه تكون إِلى التعقل والإِدراك أقرب منها إِلى الغريزة. نشاهد اليوم أنّ حيوانات مختلفة يجري تدريبها لأغراض متنوعة، فالكلاب البوليسية تدرب للقبض على المجرمين، والحمام الزاجل لنقل الرسائل، وحيوانات أُخرى ترسل لابتياع بعض الحوائج من السوق، وحيوانات أُخرى للصيد، وهي كلها تؤدي مهماتها بكل دقة وإِتقان (حتى أنّهم افتتحوا مؤخراً مدارس خاصّة لتعليم مختلف الحيوانات) ! فضلا عن ذلك كلّه، فإنّ هناك بعض الآيات التي تدل - بوضوح - على أنّ للحيوانات فهماً وإِدراكاً، من ذلك حكاية هروب النمل من أمام جيش سليمان، وحكاية ذهاب الهدهد إِلى منطقة سبأ باليمن ورجوعه بأخبار مثيرة لسليمان. ثمّة أحاديث إِسلامية كثيرة حول بعث الحيوانات، من ذلك ما روي عن أبي ذر قال: بيّنا أنا عند رسول الله (ص) إِذ انتطحت عنزان، فقال رسول الله (ص) "أتدرون فيما انتطحتا؟" فقالوا: لا ندري، قال: "ولكن الله يدري وسيقضي بينهما" (2). وفي رواية بطرق أهل السنة عن رسول الله (ص) في تفسير هذه الآية أنّه قال: "إِنّه يحشر هذه الأُمم يوم القيامة ويقتص من بعضها لبعض حتى يقتص للجماء من القرناء" (3). وفي الآية (رقم 5) من سورة التكوير يقول سبحانه: (وإِذا الوحوش حشرت) وهي دليل آخر على ذلك. 2 - الحشر والتكليف: تطرح هنا مسألة يتوقف فهم الآية عليها، وهي هل أن مقولة تكليف الحيوانات معقولة، مع أنّ من شروط التكليف العقل، ولهذا لا يكون الطفل والمجنون مكلّفين؟ فهل للحيوانات ذلك العقل الذي يؤهلها للتكليف؟ وهل يمكن أن نعتبر الحيوان أكثر عقلا وإِدراكاً من الصبي غير البالغ ومن الجنون؟ فإِذا لم يكن له مثل هذا العقل والإِدراك، فكيف يجوز أن يكلّف، وبأي تكليف؟ للجواب على هذه السؤال نقول: إِنّ للتكليف مراحل ودرجات، وكل مرحلة تناسب درجة معينة من العقل والإِدراك، وانّ التكاليف الكثيرة المفروضة في القوانين الإِسلامية على الإِنسان تتطلب مستوى رفيعاً من العقل والإِدراك لإِنجازها، ولا يمكن أن نفرض مثل تلك التكاليف على الحيوانات طبعاً، لأنّ الشرط المطلوب لإِنجازها غير متوفر في الحيوانات، إِلاّ أنّ مرحلة من التكاليف البسيطة التي يكفي لها ما يناسبها من الفهم والإِدراك يمكن تصورها وقبولها في الحيوان ولا يمكن إِنكارها، بل من الصعب أن نرفض كل تكليف بشأن الأطفال والمجانين القادرين على فهم بعض المسائل، فالصبي الذي لم يبلغ سن الرشد - كأن يكون عمره 14 سنة مثلا - لو ارتكب جريمة قتل، وهو عالم بكل أضرار هذا العمل، فلا يمكن اعتباره بريئاً، والقوانين الجزائية في العالم تضع عقوبات على بعض جرائم الأطفال غير البالغين، وإِن كانت العقوبات أخف طبعاً. وعليه، فإِنّ البلوغ واكتمال العقل من شروط التكليف في المراحل العليا المتكاملة، أمّا في المراحل الأدنى، أي في الذنوب التي لا يخفى قبحها حتى على من هم أدنى مرتبة، فان البلوغ والتكامل العقلي ليسا شرطاً لازماً. فإِذا أخذنا اختلاف مراحل التكليف واختلاف مراتب العقل بنظر الاعتبار، يمكن حل قضية الحيوانات أيضاً بهذا الشأن. 3 - هل تدل هذه الآية على التناسخ؟ من العجيب أن بعض مؤيدي فكرة "التناسخ" الخرافية يتخذون من هذه الآية دليلا على صحة فكرتهم، ويقولون: يفهم من الآية أنّ الحيوانات أُمم مثلكم، مع أنّنا نعلم أنّها ذاتياً ليست مثلنا، فيمكن إذن القول بأن أرواح البشر التي تفارق أبدانها تحل في أبدان الحيوانات، وبهذا الشكل تنال الأرواح المذنبة العقاب. ولكن على الرغم من أنّ فكرة التناسخ تناقض "قانون التكامل" ولا تتفق مع منطق العقل، وتستوجب إِنكار "المعاد" (كما سبق شرحه في موضعه)، فانّ هذه الآية لا تدل على التناسخ مطلقاً، إِذ إِنّ المجتمعات الحيوانية - كما قلنا - تشبه المجتمعات البشرية، وهو شبه بالفعل لا بالقوّة، لأن للحيوانات نصيبها من الفهم والإِدراك، ونصيبها من المسؤولية أيضاً، ومن ثمّ نصيبها من البعث والحساب، أنّها تشبه الإِنسان في هذه الحالات. ينبغي أن نعرف أنّ التكاليف والمسؤوليات الملقاة على الحيوانات في مرحلة خاصّة لا تعني أنّ لها إماماً وقائداً وشريعة وديناً كما ذهب اليه بعض أصحاب التصوف، فهي لا يقودها سوى إدراكها الباطني، أي أنّها تدرك بعض الأُمور، فتكون مسؤولة عنها بقدر إدراكها لها. ﴿وَمَا مِن﴾ مزيدة ﴿دَآبَّةٍ﴾ تدب ﴿فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ في الجو صفة لدفع مجاز السرعة ﴿إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم﴾ في كسب أرزاقها وآجالها وأحوالها والقادر المدبر لذلك قادر على إنزال الآية ﴿مَّا فَرَّطْنَا﴾ ما تركنا ﴿فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾ في اللوح أو القرآن ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ فيقتص حتى للجماء من القرناء.