التّفسير
النّور الّذي يضيء في الظّلام:
مرّة أُخرى يأخذ القرآن بيد المشركين ويتوغلّ بهم إِلى أعماق فطرتهم، وهناك في تلك الأغوار المحفوفة بالأسرار الغامضة يريهم نور التوحيد وعبادة الواحد الأحد، فيقول للنبي (ص) قل لهم: (قُل مَن يُنجّيكُم مِنْ ظُلمات البرِّ وَالبَحر) ؟
إِنّ الظلام يكون حسياً أحياناً ومعنوياً أحياناً أُخرى، الظلام الحسي هو الذي يكون عند انقطاع النّور إِنقطاعاً تاماً، أو يضعف بحيث لا يرى شيء، أو يرى بالجهد الجهيد، والظلام المعنوي هو المشاكل والصعوبات ذات النهايات المظلمة الغامضة، الجهل... الإِضطرابات الإِجتماعية والإِقتصادية والفكرية، والإِنحرافات والفساد الأخلاقي التي لا يمكن التكهن بعواقبها السئية، أو التي تجر إِلى التعاسة والشقاء... كلّها ظلام.
إِنّ الظلام بذاته مخيف مثير للأوهام والتخيلات، فهجوم الكثير من الحيوانات الخطرة وسطوة اللصوص والمجرمين يقع تحت جنح الظلام، أنّ لكل امرىء ذكرياته عن هذه الحالات، فعند هبوط الظلام تنشط الأوهام وتخرج منها الأشباح المرعبة، فيستولي الخوف والهلع على العامّة من الناس.
الظلام من العدم، والإِنسان يهرب بطبيعته من العدم ويخافه، ولهذا نراه يخاف الظلام.
وإِذا حدثت في هذا الظلام حوادث واقعية مرعبة، كأن يكون الإِنسان مسافراً في البحر، وتحاصره في ليلة ظلماء الأمواج الهائلة والدوامات المائية، فإنّ خوفه من ذلك يكون أضعاف ما لو حدث ذلك بالنهار، لأنّ الإِنسان في مثل هذه الظروف يجد أبواب النجاة مسدودة في وجهه، وهكذا لو كان في ليلة حالكة الظلام يسير في الصحراء فيضل الطريق ويسمع زمجرة الوحوش المفترسة من هنا وهناك وهي تبحث عن فريسة، في مثل هذه اللحظات ينسى الإِنسان كل شيء ولا يعود يتذكر شيئاً سوى نفسه، والنّور الذي يسطع في أعماقه ويجذبه نحو المبدأ قادر على إَزالة ما يعتوره من بلاء وضيق، هذه الحالات تفتح نوافذ على عالم التوحيد ومعرفة الله، لذلك يقول في أمثال هذه الحالات: (تدعونه تضرعاً وخفية).
وتعقدون - وأنتم في تلك الحالة - عهداً وميثاقاً على أنفسكم، وتقولون: (لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين
﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُم﴾ بالتشديد والتخفيف ﴿مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ شدائدهما يقال لليوم الشديد مظلم وذو كواكب ﴿تَدْعُونَهُ﴾ حال ﴿تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾ علانية وسرا حالان أو مصدران ﴿لَّئِنْ أَنجَانَا﴾ وقرىء أنجينا ﴿مِنْ هَذِهِ﴾ الظلمات ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾.