سبب النّزول
جاء في تفسير مجمع البيان عن الإِمام الباقر (ع) أنّه عند ما نزلت الآية الأُولى ونهي المسلمون عن مجالسة الكفار والذين كانوا يسخرون من آيات الله، قال فريق من المسلمين إِذا كان علينا أن نلتزم بهذا النهي في كل مكان فإنّه يمتنع علينا الذهاب إِلى المسجد الحرام والطواف به (وذلك لأنّ أُولئك كانوا منتشرين في أطراف المسجد ولا يفتأون يتناولون الآيات القرآنية بالكلام الباطل، فحيثما نتوقف في أرجاء المسجد ثمّة احتمال أن يصل كلامهم الى مسامعنا).
عندئذ نزلت الآية الثانية تأمر المسلمين في مثل هذه الحالات أن ينصحوهم ويهدوهم ويرشدوهم قدر إِمكانهم.
إِنّ ورود سبب نزول لهذه الآية لا يتعارض - كما قلنا من قبل - مع نزول السورة كلها مرّة واحدة، إِذ من المحتمل أن تكون هناك حوادث مختلفة في حياة المسلمين، فتنزل سورة واحدة تختص كل مجموعة من آياتها ببعض تلك الحوادث.
التّفسير
إِجتناب مجالس أهل الباطل:
بما أنّ المواضيع التي تتطرق إِليها هذه السورة تتناول حال المشركين وعبدة الأصنام، فهاتان الآيتان تبحثان موضوع آخر من المواضيع التي تتعلق بهم، ففي البداية تقول للرّسول (ص) : (وإِذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) (1).
على الرغم من أنّ الكلام هنا موجه إِلى رسول الله (ص)، إِلاّ أنّه لا يقتصر عليه وحده، بل هو موجه إِلى المسلمين كافة، إِنّ فلسفة هذا الحكم واضحة، إِذ لو اشترك المسلمون في مجالسهم، لاستمر المشركون في خوضهم في آيات الله بالباطل نكاية بالمسلمين واستهزاء بكلام الله ولكنّ المسلمين إِذا مروا دون أن يبالوا بهم، فسيكفّون عن ذلك ويغيرون الحديث إِلى أُمور أُخرى، لأنّهم كانوا يتقصدون إِيذاء رسول الله (ص) والمسلمين.
ثمّ تخاطب الآية رسول الله مؤكّدة أهمية الموضوع: (وإمّا ينسينّك الشيطان فلا تقعد (2) بعد الذكرى مع القوم الظالمين) أي إِذا أنساك الشيطان هذا الأمر وجلست مع هؤلاء القوم سهواً، فعليك - حالما تنتبه - أن تنهض فوراً وتترك مجالسة الظالمين.
سؤالان:
هنا يبرز سؤالان:
الأوّل: هل يمكن للشّيطان أن يتسلط على النّبي (ص) ويسبب له النسيان؟ وبعبارة أُخرى، كيف يمكن للنّبي مع عصمته وكونه مصوناً عن الخطأ حتى في الموضوعات أن يخطىء وأن ينسى؟
في الإِجابة على هذا السؤال يمكن القول بأنّ الخطاب في الآية وإن يكن موجهاً إِلى النّبي (ص) فهو يتحدث في الواقع مع اتباعه الذين يمكن أن ينسوا فيساهموا في إِجتماعات المشركين الآثمة، فهؤلاء عليهم حال إِنتباههم إِلى ذلك أن يتركوا المكان، أنّ مثل هذا الأسلوب كثير الحدوث في حياتنا اليومية وموجود في مختلف آداب العالم، فأنت قد توجه الخطاب إِلى أحدهم ولكنّ هدفك هو أن يسمع الآخرون ذلك كما يقول المثل: إِياكِ أعني واسمعي يا جارة.
هناك مفسّرون آخرون مثل الطبرسي في مجمع البيان وأبي الفتوح في تفسيره المعروف يوردون جواباً آخر عن هذا السؤال خلاصته: إنّ السهو والنسيان في قضايا الأحكام ومقام حمل الرسالة من جانب الله غير جائزين بالنسبة للأنبياء، أمّا في الحالات التي لا تؤدي إِلى ضلال الناس فجائزان، إِلاّ أنّ هذا الجواب لا يتفق مع ما هو مشهور عند متكلمينا من أن الأنبياء والأئمّة معصومون عن الخطأ ومصونون عن النسيان، لا في قضايا الأحكام وحدها، بل حتى في القضايا العادية أيضاً.
السؤال الثّاني: يعتبر بعض علماء أهل السنة هذه الآية دليلا على عدم جواز التقية الدينية للقادة الدينيين، وذلك لأنّ الآية تصرّح بالنهي عن اللجؤ إِلى التقية أمام الأعداء وتأمر بترك مجلسهم.
والجواب على هذا الإِعتراض واضح، فالشيعة لا يقولون بوجوب التقية دائماً، بل إِنّ التقية في بعض الأحيان حرام، إِنّما ينحصر وجوبها في الظروف التي تكون فيها للتقية وكتمان الحق منافع أكبر من منافع إِظهاره، أو تكون سبباً في دفع خطر أو ضرر كبير.
﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ بالطعن والاستهزاء بها ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ فلا تقعد معهم ﴿حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ غير الخوض فيها ﴿وَإِمَّا﴾ هي إن الشرطية أدغمت في ما الزائدة ﴿يُنسِيَنَّكَ﴾ بالتخفيف والتشديد ﴿الشَّيْطَانُ﴾ بوسوسة مجالسهم ولا يلزم نسيانه (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأن فرض الإنساء لا يستلزم وقوعه أو خوطب (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمراد غيره ﴿فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى﴾ ذكرك النهي ﴿مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أي معهم، وأقيم الظاهر مقامه إيذانا بظلمهم بوضع الاستهزاء موضع التعظيم.