التّفسير
الذين اتّخذوا الدّين لعباً:
هذه الآية تواصل ما بحثته الآية السابقة، وتأمر رسول الله (ص) أن يدع أُولئك الذين يستهينون بأمر دينهم، ويتخذون ممّا يلهون ويلعبون به مذهباً لهم ويغترون بالدنيا وبمتاعها المادي: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرّتهم الحياة الدنيا).
بديهي أنّ الأمر بترك هؤلاء لا يتعارض مع قضية الجهاد، فللجهاد شروط، ولإِهمال الكفار شروط أُخرى، وكل واحد من هذين الحالين يجب أن يتحقق في ظروفه الخاصّة، قد يستلزم الأمر - أحياناً - دفع المناوئين عن طريق عدم الإِعتناء بهم، وفي أحيان أُخرى قد يقتضي الأمر الجهاد والتوسل بالسلاح، أمّا القول بأنّ آيات الجهاد قد نسخت هذه الآية فغير صحيح.
وتشير هذه الآية إِلى أنّ سلوكهم الحياتي من حيث المحتوى أجوف وواه، فهم يطلقون اسم الدين على بعض الأعمال التي هي أشبه بلعب الأطفال ومجمون الكبار، فهؤلاء غير جديرين بالمناقشة والمباحثة، وعليه يؤمر النّبي (ص) بأن يعرض عنهم ولا يعتني بدينهم الفارغ.
يتضح ممّا قلنا أنَّ "دينهم" يعني "دين الشرك وعبادة الأصنام" الذي كانوا يدينون به، أمّا القول بأنّ المقصود هو "الدين الحق" وإِنّ إِضافة الدين إِليهم يستند إِلى كون الدين فطرياً، فيبدو بعيد الإِحتمال.
والإِحتمال الآخر في تفسير الآية هو أن القرآن يشير إِلى جمع من الكفار الذين كانوا يتعاملون مع دينهم كألعوبة وملهاة، ولم ينظروا أبداً إِلى الدين كأمر جاد يستوجب إِمعان الفكر والتأمل، أي أنّهم كانوا لايؤمنون حقيقة حتى في معتقدات شركهم، ولم يقيموا وزنا حتى لدينهم الذي لا أساس له.
على كل حال فالآية لا تخص الكفار وحدهم، بل هي تشمل جميع الذين يتخذون من الأحكام الإِلهية ومن المقدسات وسائل للتلهي وملء الفراغ وبلوغ الأهداف المادية الشخصية، أُولئك الذين يجعلون الدين آلة الدنيا، والأحكام الإِلهية العوبة أغراضهم الخاصّة.
ثمّ يؤمر الرّسول الله (ص) أن ينبّههم إِلى أعمالهم هذه وإِلى أنّ هناك يوماً لابدّ لهم أن يستسلموا فيه لنتائج أعمالهم ولن يجدوا من ذلك مفراً: (وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت) (1).
يوم لا شفيع ينفع ولا ولي سوى الله: (ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع).
إِنّهم يؤمنذ في حال صعبة مؤلمة يرزحون في قيود أعمالهم بحيث إِنّهم يرتضون أن يدفعوا أية غرامة (إِن كان عندهم ما يدفعونه) ولكنّها لن تقبل منهم: (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) (2).
ذلك لأنّهم يكونون بين مخالب أعمالهم، ولا فدية تنجيهم، ولا توبة تنفعهم بعد أن فات الأوان: (أُولئك الذين أبسلوا بما كسبوا).
ثمّ يشار إِلى جانب ممّا سيصيبهم من العذاب الأليم بسبب إعراضهم عن الحق والحقيقة: (لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون).
إِنّهم يتعذّبون بالماء الحريق من الداخل، ويكتوون بنار الجحيم.
يجدر الإِنتباه هنا إِلى أن جملة (أُولئك الذين أبسلوا بما كسبوا) هي بمثابة السبب الذي يمنع من قبول الغرامة ومن قبول أي شفيع وولي، أي أن عقابهم ليس لعلة خارجية بحيث يمكن دفعها بشكل من الأشكال، بل ينبع من داخل الذات وسلوكها وأعمالها، إِنّهم أسرى أعمالهم القبيحة، لذلك لا مفر لهم، لأنّ فرار المرء من أعماله وآثارها إِنّما هو فرار من ذاته، وهو غير ممكن.
غير أنّنا لابدّ أن نعلم أنّ هذه الحالة من الشدّة والصعوبة وإِنعدام طريق العودة ورفض الشفاعة إِنّما تكون بحق الذين أصروا على كفرهم واستمروا عليه، كما يتبيّن من عبارة: (بما كانوا يكفرون) (الفعل المضارع يفيد الاستمرارية).
﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا﴾ تهاونوا به أي أعرض عنهم ولا تبال بهم ﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ فألهتهم عن العقبى ﴿وَذَكِّرْ بِهِ﴾ بالقرآن ﴿أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ﴾ مخافة أن تسلم إلى الهلكة ﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾ بسوء عملها ﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ﴾ ناصر ﴿وَلاَ شَفِيعٌ﴾ ينجيها من العذاب ﴿وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ﴾ تفد كل فداء أو نصب كل مصدرا ﴿لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾ المسند إليه منها لا ضمير المصدر بخلاف ولا يؤخذ منها عدل أي فدية ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ﴾ أسلموا للهلكة بسوء عملهم ﴿لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ﴾ ماء يغلي حار ﴿وَعَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ هو النار ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾ بكفرهم.