لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
(فلمّا رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلمّا أفلت قال يا قوم إِنّي بريء ممّا تشركون). الآن بعد أن عرفت أنّ وراء هذه المخلوقات المتغيرة المحدودة الخاضعة لقوانين الطبيعة إِلهاً قادراً وحاكماً على نظام الكائنات، فاني أتجه إِلى الذي خلق السموات والأرض، وفي إِيماني هذا لن أشرك به أحداً، فاني موحد ولست مشركاً: (إِنّي وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين). للمفسّرين كلام كثير في تفسير هذه الآية والآيات التّالية بشأن ما دفع بإِبراهيم الموحد العابد لله الواحد، أن يشير إِلى كوكب في السماء ويقول: هذا ربّي؟ ومن بين آراء المفسّرين الكثيرة نقف عند تفسيرين قد اختار كلا منهما عدد من كبار المفسّرين، كما أنّهما مدعومان بشواهد من المصادر الحديثية: الأوّل: يقول إِنّ إِبراهيم كان يريد شخصياً أن يفكر في معرفة الله وأن يعثر على المعبود الذي كان يجده بفطرته النقية في أعماق ذاته، إنّه كان يعرف الله بنور فطرته ودليل العقل الإِجمالي إِذ إِنّ كل تعبيراته تدل على أنّه لم يكن يشك أبداً في وجوده، ولكنّه كان يبحث عن مصداقه الحقيقي، بل لقد كان يعلم بمصداقه الحقيقي أيضاً، ولكنّه كان يريد أن يصل عن طريق الاستدلال العقلي الأوضح إِلى مرحلة "حق اليقين". وقد وقعت له هذه الحوادث قبل نبوته، ويحتمل أن تكون في أوّل بلوغه أو قبيل ذلك. نقرأ في بعض التواريخ والرّوايات أنّ هذه كانت المرّة الأُولى التي يرنو فيها إِبراهيم بنظره إِلى السماء وإِلى كواكبها الساطعة، لأن أُمّه كانت منذ طفولته قد أخفته في غار خوفاً عليه من بطش نمرود الجبار وجلاوزته. غير أنّ هذا الإِحتمال يبدو بعيداً، إِذ يصعب أن نتصور إِنساناً يعيش سنوات طويلة في بطن غار ولا يخطو خارجه، ولو مرّة، في ليلة ظلماء، فلعل الذي قوى هذا الإِحتمال في نظر بعض المفسّرين هو تعبير (رأى كوكباً) الذي يوحي بأنه لم يكن قد رأى كوكباً حتى ذلك الحين، ولكن هذا التعبير لا يحمل في الواقع مثل هذا المفهوم، بل المقصود هو أنّه، وإِن كان قد رأى الكواكب والشمس والقمر مرات حتى ذلك الوقت، فقد ألقى الأوّل مرّة نظرة فاحصة مستطلعة إِلى هذه الظواهر. وكان يفكر في مغزى بزوغها وأُفولها ونفي الأُلوهية عنها، في الحقيقة كان إِبراهيم قد رآها مراراً، ولكن لا بتلك النظرة. لذلك فإِنه عندما يقول: (هذا ربّي) لا يقولها قاطعاً جازماً، بل يقولها من باب الفرض والإِحتمال حتى يفكر في الأمر، وهذا يشبه تماماً حالنا ونحن نحاول أن نعثر على سبب حادثة ما، فنقلب مختلف الإِحتمالات والإِفتراضات على وجوهها واحدة واحدة، ونستقصي لوازم كل فرضية حتى نعثر على العلة الحقيقية، وهذا لا يكون كفراً، بل ولا حتى دليلا على عدم الإِيمان، بل هو طريق لتحقيق أكثر ولمعرفة أفضل، للوصول إِلى مراحل أعلى من الإِيمان، كما فعل إِبراهيم في مسألة "المعاد" إِذ قام بمزيد من الدراسة يوصل إِلى مرحلة الشهود والإِطمئنان. جاء في تفسير العياشي عن محمّد بن مسلم عن الإِمام الباقر أو الصادق (عليهما السلام) أنّه قال: "إِنّما كان إِبراهيم طالباً لربّه، ولم يبلغ كفراً، وانّه من فكر من الناس في مثل ذلك فإِنه بمنزلته" (2). وهنالك روايتان أُخريان يذكرهما تفسير نورالثقلين بهذا الشأن. أمّا التّفسير الثّاني فيقول: إِن إِبراهيم كان يقول هذا الكلام أثناء مخاطبته عبدة النجوم والشمس، ويحتمل أن يكون ذلك بعد مخاصماته الشديدة في بابل مع عبدة الأوثان وخروجه منها إِلى الشام، حيث التقى بهؤلاء الأقوام، وإِبراهيم الذي كان قد خبر عناد الأقوام الجاهلة في بابل وخطأ تفكيرهم، أراد أن يجلب إِليه إِنتباه عبدة الكواكب والشمس والقمر، فأظهر في البداية أنّه معهم وقال لهم: إِنكم تقولون: إِنّ كوكب الزهرة هذا هو ربّي، حسناً، فلنر ما يحصل لهذا الإِعتقاد في النهاية، ولم يمض وقت طويل حتى أختفى وجه الكوكب النير خلف ستار الأُفق المظلم، عندئذ إِتّخذ إِبراهيم من هذا الأُفول سلاحاً يواجههم به فقال: أنا لا يمكنني أن أتقبل معبوداً كهذا. وعليه، فإِنّ عبارة (هذا ربّي) تعني: هذا ما تعتقدون أنّه ربّي، أو أنّه قالها بلهجة الإِستفهام: "هذا ربّي؟". ويؤيد هذا التّفسير أيضاً رواية في "نور الثقلين" وتفاسير أُخرى عن كتاب "عيون أخبار الرضا (ع) ". كيفية استدلال إِبراهيم على التوحيد: هنا يبرز هذا السؤال: كيف استطاع إِبراهيم أن يستدل من غروب الشمس والقمر والكواكب على عدم ربوبيتها؟ يمكن أن يكون هذا الاستدلال من طرق ثلاثة: 1 - إِنّ الله المربي، كما يستفاد من كلمة "رب" لابدّ أن يكون دائماً قريباً من مخلوقاته وأن لا ينفصل عنهم لحظة واحدة، وعليه لا يجوز لكائن يغرب ويختفي ساعات طويلة، بنوره وبركته وتنقطع صلته كلياً عن الكائنات الأُخرى، أن يكون ربّاً وإِلهاً. 2 - إِنّ كائناً يغرب ويبزغ ويخضع للقوانين الطبيعية، لا يمكن أن يحكم على هذه القوانين ويملكها؟ إنّه هو نفسه مخلوق ضعيف يخضع لأوامرها وغير قادر على أدنى إِنحراف عنها... 3 - إِنّ الكائن المتحرك لا يمكن إِلاّ يكون كائناً حادثاً، فقد أثبتت الفلسفة أنّ الحركة دليل على الحدوث، لأنّ الحركة ذاتها نوع من الوجود الحادث، وأن ما يكون في معرض الحوادث، أي يكون ذا حركة، لا يمكن أن يكون كائناً أزلياً وأبدياً (تأمل بدقّة). ملاحظات هنا لابدّ من الإِنتباه إِلى النقاط التّالية: 1 - في الآية الأُولى من الآيات التي نحن بصددها، كلمة "كذلك..." تلفت النظر، وهي تعني: إنّنا مثلما أوضحنا - عقلا - أضرار عبادة الأصنام لإِبراهيم، كذلك نريه مالكية الله للسماوات والأرض وحكمه عليها، يقول بعض المفسّرين: ذلك يعني: إِنّنا كما أريناك قدرة الله وحكمه على السموات، أريناها لإِبراهيم أيضاً لكي يزداد معرفة بالله. 2 - أصل "الجن" ستر الشيء عن الحاسة، فمعنى الآية هو: عندما ستر الليل ملامح الكائنات عن إِبراهيم... وإِطلاق كلمة "مجنون" على المخبول لإِسدال ستار على عقله، وإِطلاق "الجن" على الكائنات غير المرئية جاء من هذا الباب، وكذلك الجنين لإِختفائه عن الأنظار في رحم أُمه، و"الجنّة" هي البستان التي أُختفت أرضها تحت أغصان الأشجار، وقيل للقلب "الجنان" لإِستتاره في الصدر، أو لأنّه يخفي أسرار الإِنسان. 3 - وبشأن تعيين الكوكب الذي رآه إِبراهيم، ذهب المفسّرون مذاهب شتى، غير أنّ معظمهم يراه "الزهرة" أو "المشتري" ويذكر التّأريخ أنّ القدامى كانوا يعبدون هذين الكوكبين من بين آلهتهم، أمّا الحديث المنقول عن الإِمام الرضا (ع) في "عيون الأخبار" فيقول: إِنّ ذلك الكوكب كان "الزهرة"، وهذا ما جاء أيضاً في تفسير علي بن إِبراهيم عن الإِمام الصادق (ع) (3). يقول بعض المفسّرين أنّ أهالي كلدة وبابل شرعوا في محاربة عبدة الأصنام، وراحوا يختارون السيارات باعتبار كل واحدة منها تمثل إِلهاً لنوع من أنواع الأشياء من ذلك أنّهم اعتبروا "المريخ" إِله الحرب، و"المشتري" إِله العدل والعلم، و"عطارد" إِله الوزراء و"الشمس" ملك الآلهة جميعاً (4). 4 - "بازغ" من "بزغ" وبزغه: شقه وأسال دمه، ولذلك تطلق على عمل البيطار في الجراحة، وإِطلاق هذه الكلمة على طلوع الشمس أو القمر تعبير بليغ يحمل أجمل صور التشبيه، فالشمس والقمر عند الطلوع يشقان الظلام، ويسكبان عند الأُفق إِحمرار الشفق الذي ليس ببعيد الشبه عن الدم المسفوح. 5 - "فطر" من "الفطور" بمعنى الشق، ولعل إِطلاق هذه الكلمة على خلق السماء والأرض ناشىء - كما قلنا في تفسير الآية (14) من هذا السورة - من كون العالم كان في اليوم الأوّل حسبما يقول العلم اليوم - كتلة واحدة، ثمّ تشققت وظهرت الكرات والإِجرام السماوية الواحدة بعد الأُخرى (انظر تفسير الآية المذكورة لمزيد من الإِيضاح). 6 - "الحنيف" هو الخالص، كما جاء في تفسير الآية (67) من سورة آل عمران. ﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ ذكر المبتدأ لتذكير الخبر ﴿هَذَآ أَكْبَرُ﴾ من الأولين ﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ بالخالق من الأجرام المخلوقة المحتاج إلى محدث يحدثها.