في الآية التّالية جواب يدلي به إِبراهيم على سؤال كان هو قد ألقاه في الآية السابقة (وهذا أسلوب من أساليب الاستدلال العلمي، فقد يسأل المتكلم سؤالا عن لسان المخاطب ثمّ يبادر إِلى الإِجابة عليه مباشرة كدليل على أن الجواب من الوضوح بحيث ينبغي أن يعرفه كل شخص)، يقول: إِنّ المؤمنين الذين لم يمزجوا إِيمانهم بظلم، هم الآمنون وهم المهتدون (الذين آمنوا ولم يلبسوا إِيمانهم بظلم أُولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
ثمّة رواية عن أميرالمؤمنين علي (ع) تؤيد كون هذه الآية إِستكمالا لحوار إِبراهيم مع عبدة الأصنام (3).
بعض المفسّرين يرى أن من المحتمل أن تكون هذه الآية بياناً إِلهياً، وليست مقولة قالها إِبراهيم، إِلاّ أن ما ذكرناه - فضلا عن تأييد الرواية المذكورة له - أكثر إِنسجاماً مع ترتيب الآيات ووضعها، أمّا القول بأنّ هذه الآية لسان حال عبدة الأصنام، وإنّهم قالوها بعد تيقظهم على أثر سماع أدلة إِبراهيم، فأمر بعيد الإِحتمال جدّاً.
ما معنى "الظلم" هنا؟
يرى معظم المفسّرين أنّ معنى "الظلم" هنا هو "الشرك".
وأنّ الآية (12) من سورة لقمان: (إِنّ الشّرك لظلم عظيم) دليل على ذلك.
وفي رواية منقولة عن ابن عباس أنّه عند نزول هذه الآية شقّ على الناس فقالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ (أي أنّ الآية تشملهم جميعاً)، فقال رسول الله (ص) : "إِنّه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا إِلى ما قال العبد الصالح: (... يا بني لا تشرك بالله إِنّ الشرك لظلم عظيم) (4).
غير أنّ لآيات القرآن معاني متعددة في كثير من الحالات بحيث يمكن أن يكون أحدها أوسع وأشمل، وهذا الإِحتمال جائز في هذه الآية أيضاً، فيحتملأن يكون "الأمن" عاماً يشمل الأمن من عقاب الله، والأمن من حوادث المجتمع المؤلمة، والأمن من الحروب والمفاسد، والجرائم وحتى الأمن النفسي لا يتحقق إِلاّ عندما يسود المجتمع مبدآن معاً: الإِيمان والعدالة الإِجتماعية، فإِذا ما تزلزلت قاعدة الإِيمان بالله، وزال الشعور بالمسؤولية أمام الله، وحل الظلم محل العدالة الإِجتماعية، فلن يكون في مثل هذا المجتمع أمان.
لذلك فعلى الرغم من المساعي والجهود التي يبذلها فريق من العلماء في العالم للحيلولة دون إِنعدام الأمن، فإِنّ الهوة بين العالم وحالة الأمن والإِستقرار تتسع يوماً بعد يوم إِنّ السبب هو ما جاء في الآية المذكورة: تزلزل أركان الإِيمان، وقيام الظلم مقام العدالة.
إِنّ تأثير الإِيمان في الإِطمئنان النفسي والهدوء الروحي لا يمكن إِنكاره، كما لا تخفى على أحد حالات تبكيت الضمير والقلق النفسي بسبب إِرتكاب المظالم.
روي عن الإِمام الصّادق (ع) في قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إِيمانهم بظلم) قال: "بما جاء به محمّد (ص) من الولاية، ولم يخلطوها بولاية فلان وفلان" (5).
هذا التّفسير يستهدف - في الحقيقة - بيان روح الموضوع في الآية الشريفة، إِذ أنّ الكلام يدور حول ولاية الله وعدم خلطها بولاية غيره، ولما كانت ولاية أمير المؤمنين علي (ع) بموجب (إِنّما وليكم الله ورسوله...) قبساً من ولاية الله ورسوله (ص) والولايات غير المعينة من قبل الله ليست كذلك، فإِنّ هذه الآية من خلال نظرة واسعة تشمل الجميع، وعليه ليس المقصود من هذا الحديث أن ينحصر معنى الآية في هذا فقط، بل إِنّ هذا التّفسير قبس من مفهوم الآية الأصلي.
لذلك نجد في حديث آخر عن الإِمام الصّادق (ع) أنّه جعل هذه الآية تشمل الخوارج الذين خرجوا من ولاية الله ودخلوا في ولاية الشيطان (6).
﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ﴾ ولم يخلطوا ﴿إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ﴾ بشرك وشك ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ من تمام قوم إبراهيم.