لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
سبب النّزول الغافلون عن الله: روي عن ابن عباس أنّ جمعاً من اليهود قالوا لرسول الله (ص) : يا محمّد أحقاً أنزل الله عليك كتاباً؟ فقال: نعم، فقالوا: قسماً بالله إِنّه لم ينزل عليك كتاباً من السماء (1). هنالك أقوال أُخرى في سبب نزول هذه الآية، ولكنّنا سنعرف فيما بعد أنّ ما قلناه أقرب وأنسب. التّفسير يختلف المفسّرون حول كون هذه الآية واردة بشأن اليهود أو المشركين، ولمّا لم تكن لرسول الله (ص) مباحثات مع اليهود في مكّة، بل بدأت في المدينة، وهذا السورة مكّية، لذلك يرى بعضهم أنّ هذه الآية قد نزلت في المدينة، إِلاّ أنّها وضعت في هذه السّورة المكية بأمر من رسول الله (ص)، ولهذا في القرآن ما يشابهه. لإِتضاح الحقيقة يجب أن نتعرف أوّلا على تفسير الآية الإِجمالي، ثمّ نبحث عمن تتحدث عنه الآية، وعمّا تستهدفه. في البداية تقول الآية: إِنّهم لم يعرفوا الله معرفة صحيحة وأنكروا نزول كتاب سماوي على أحد: (وما قدروا الله حق قدره إِذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء). فيأمر الله رسوله أن (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس). ذلك الكتاب الذي جعلتموه صحائف متناثرة، تظهرون منه ما ينفعكم وتخفون ما تظنونه يضرّكم: (تجعلونه في قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً). إِنّكم تتعلمون من هذا الكتاب السماوي أُموراً كثيرة لم تكونوا أنتم ولا أباؤكم تعلمون عنها شيئاً: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم). وفي ختام الآية يؤمر النّبي (ص) أن يذكر الله وأن يترك أُولئك في أباطيلهم وعنادهم ولعبهم: (قل الله ثمّ ذرهم في خوضهم يلعبون). إِذا كانت هذه الآية قد نزلت في المدينة وكان اليهود هم المعنيين بها، يكون المعنى أنّ جمعاً من اليهود كانوا ينكرون نزول كتاب سماوي على الأنبياء. ولكن هل يمكن أن ينكر اليهود - اتباع التّوراة - نزول كتاب سماوي؟ نعم، وسيزول عجبك إِذا علمت المسألة التّالية: لو أمعنا النظر في العهد الجديد (الأنجيل) والعهد القديم (التّوراة والكتب الملحقة بها) نجد أنّ كل هذه الكتب تفتقر إِلى المسحة السماوية، أي أنّها ليست خطاباً موجهاً من الله إِلى البشر، بل إِنّها مقولات وردت على ألسنة تلامذة موسى والمسيح (عليهما السلام) وأتباعهما على شكل سرد لحوادث تاريخية وسير، والظاهر أنّ اليهود والمسيحيين اليوم لا ينكرون ذلك، إِذ أنّ حكاية موت موسى وعيسى وحوادث كثيرة أُخرى وقعت بعدهما وردت في هذه الكتب، لا باعتبارها تنبؤات عن المستقبل، بل سرداً لحوادث ماضية، فهل يمكن لكتب مثل هذه أن تكون قد نزلت على موسى وعيسى؟! كل ما في الأمر أنّ المسيحيين واليهود يعتقدون أنّ هذه الكتب قد كتبت بأيدي أُناس عندهم أخبار عن الوحي، فاعتبروها كتباً مقدسة خالية من الخطأ ويمكن الإِعتماد عليها. بناء على هذا يتضح لنا لماذا كان هؤلاء ينتابهم العجب لدى سماعهم أُسلوب القرآن بشكل خطاب من الله إِلى النّبي وإِلى عباد الله؟ وكما قرأنا في سبب نزول هذه الآية فإِنّهم قد انتابهم العجب فسألوا الرّسول (ص) إِن كان الله قد أنزل عليه - حقاً - كتاب، ثمّ أنكروا هذا الأمر كلياً ونفوا أن يكون أي كتاب قد نزل على أحد، حتى على موسى. غير أنّ الله يردّ عليهم قائلا: إِنّكم - أنفسكم - تعتقدون أن ألواحاً ومواضيع قد نزلت على موسى، أي إنّ الكتاب الذي بين أيديكم وان لم يكن كتاباً سماوياً إلاّ أنّكم تؤمنون - على الأقل - بأنّ شيئاً مثل هذا قد نزل من قبل الله، وأنتم تظهرون قسماً منه وتخفون كثيراً منه: وعلى ذلك فلا يبقى مجال للشك في إِمكان إِنكار اليهود نزول كتاب سماوي. أمّا إِذا كانت الآية كسائر آيات هذه السّورة تخصّ المشركين، فيكون المعنى أنّهم أنكروا نزول أي كتاب سماوي لانكار ونفي دعوة النّبي (ص)، ولكن الله يبيّن لهم منطقياً أنّهم لا يستطيعون إِنكار ذلك كلياً بالنظر لنزول التّوراة على موسى، وأنّ المشركين - وإِن لم يدينوا بدين اليهود - كانوا يعتبرون الأنبياء السابقين وإِبراهيم - وموسى أيضاً على أقوى احتمال - أنبياء في عصورهم وأقاليمهم، لذلك فهم عند ظهور نبي الإِسلام (ص) لجأوا إِلى أهل الكتاب يبحثون عندهم في كتبهم عن إِمارات ودلائل تتنبأ بظهور هذا النّبي، فلو لم يكونوا يؤمنون بأنّ تلك الكتب نازلة من السماء، لما لجأوا إِليها يطلبون ما طلبوا، لذلك فهم بعد أن سألوا اليهود، أظهروا ما كانت فيه مصلحتهم، وأخفوا ما عداه (كعلامات ظهور النّبي الجديد المذكورة في تلك الكتب)، وعلى هذا يمكن تطبيق هذه الآية على أقوال مشركي مكّة أيضاً. لكن التّفسير الأوّل أقرب إِلى سياق الآية وسبب النّزول وما فيها من ضمائر. ملاحظات هنا لابدّ من الإِشارة إِلى بضع نقاط: 1 - "قراطيس" جمع "قرطاس" من أصل يوناني حسب قول بعضهم، وهو "ما يكتب فيه" كما يقول "الراغب" في "مفرداته" وبناءاً على ذلك فإِن الورق العادي وجلود الحيوانات والأشجار وأمثالها التي كانت تستخدم في الكتابة قدمياً، تنضوي تحت هذه الكلمة. 2 - قد يسأل سائل: لماذا تذم الآية اليهود كتابتهم الوحي الإِلهي على القراطيس، وهل في تلك ما يوجب الذم؟ وجواباً على ذلك نقول: إِنّ الذم لم يكن لهذا السبب، إِنّما السبب هو أنّهم كتبوه على قراطيس متفرقة بحيث يمكنهم أن يظهروا منه ما تقتضيه منافعهم، وأن يخفوا ما يؤدي إِلى ضررهم. 3 - إِنّ عبارة (وما قدروا الله حق قدره) في الواقع إِشارة إِلى أنّ من يعرف الله معرفة صحيحة لا يمكن أن ينكر إِرساله الهداة والمرشدين ومعهم الكتب السماوية إِلى البشر، لأنّ حكمة الله توجب: أوّلا: أن يعين الإِنسان في مسيرته المليئة بالمنعطفات لبلوغ هدفه التكاملي الذي خلق من أجله وإِلاّ انتقض الهدف من الخلقة، وهذا الهدف لا يمكن تحقيقه بغير الوحي والكتب السماوية والتعاليم السليمة من كل خطأ وسهو. ثانياً: كيف يمكن لربوبية الله ذات الرحمة العامّة والخاصّة أن تترك الإِنسان وحيداً في طريق سعادته المليء بمختلف الموانع والعقبات والمتاهات، فلا يرسل إِليه قائداً ومرشداً يحمل التعاليم الشاملة للأخذ بيده وتوجيهه، وعليه فإِن حكمته ورحمته توجبان إِسال الرسل وإِنزال الكتب السماوية. لا شك أن معرفة حقيقة الذات الالهية المقدسة وكنه صفاته غير ممكنة، وهذه الآية لا تقصد هذا الحدّ من معرفة الله، وإِنّما تريد أن تقول: لو حصل الإِنسان على المقدار الميسور من معرفة الله فلا يبقي شك بأنّ مثل هذا الربّ لا يمكن أن يترك عباده بدون هاد ودليل وكتاب سماوي. ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ ما عرفه اليهود حق معرفته حين أنكروا الرسل والوحي إذ من عرف الله أنه قادر حكيم لم يخلق الخلق عبثا وأنهم إليه راجعون ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى لزمه أن يقر بأنه يبعث إليهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ وقرىء الأفعال الثلاثة بالياء وهو إلزام لهم وذم على تفريقهم التوراة في ورقات وإبداء ما يشتهون منها وإخفاء كثير كنعت محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ﴿وَعُلِّمْتُم﴾ على لسان محمد ﴿مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ﴾ فإن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ﴿قُلِ اللّهُ﴾ أي أنزله الله إذ لا جواب غيره ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ﴾ باطلهم ﴿يَلْعَبُونَ﴾ حال من ذرهم أو من خوضهم.