سبب النّزول
ثمّة روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية وردت في كتب الحديث والتّفسير، من ذلك أنّ الآية نزلت بشأن شخص يسمى "عبد الله بن سعد" من كتاب الوحي، ثمّ خان فطرده رسول الله (ص)، فراح يزعم أنّه قادر على قول مثل آيات القرآن، يقول جمع آخر من المفسّرين أنّ الآية، أو قسماً منها، نزلت بحق "مسيلمة الكذاب" الذي إدعى النبوة، ولكن بالنظر لأنّ مسيلمة الكذاب ظهر في أواخر حياة رسول الله (ص)، وهذه السورة مكّية، فإنّ مؤيدي هذا التّفسير يقولون: إِنّ هذه الآية نزلت في المدينة، ثمّ أُدخلت ضمن هذه السورة بأمر رسول الله (ص).
على كل حال هذه الآية، مثل سائر آيات القرآن، نزلت في ظروف خاصّة، وهي ذات محتوى عام يشمل كل من إدعى النبوة وأمثالهم.
التّفسير
في الآيات السابقة مرّت الإِشارة إِلى مزاعم اليهود الذين أنكروا نزول أي كتاب سماوي على أحد، وفي هذه الآية يدور الكلام على اشخاص آخرين يقفون على الطرف المعاكس تماماً لأولئك، فيزعمون كذباً أن الوحي ينزل عليهم.
وتتناول الآية ثلاث جماعات من هؤلاء بالبحث، ففي البداية تقول: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً).
والجماعة الثّانية هم الذين يدعون النّبوة ونزول الوحي عليهم، فلا هم أنبياء، ولا نزل عليهم وحي: (أو قال أوحي إِليّ ولم يوح إليه شيء).
والجماعة الثّالثة هم الذين أنكروا نبوة نبي الإِسلام (ص)، أو زعموا ساخرين أنّهم يستطيعون أنّ يأتوا بمثل آيات القرآن، وهم في ذلك كاذبون ولا قدرة لهم على ذلك: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله).
نعم، هؤلاء كلّهم ظالمون، بل أظلم الظالمين، لأنّهم يغلقون طريق الحق بوجه عباد الله ويضلونهم في متاهات الضلال حائرين، ويحاربون قادة الحق، فهم ضالون مضلون، فمن أظلم ممن يدعي لنفسه القيادة الإِلهية وليست لديه صلاحية مثل هذا المقام.
على الرغم من أنّ الآية تخصّ أدعياء النبوة والوحي، إِلاّ أنّ روحها تشمل كل من يدعي كذباً لنفسه مكانة ليس أهلا لها.
ثمّ تبيّن العقاب الأليم الذي ينتظر أمثال هؤلاء فتقول: (ولو ترى إِذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم) (1) أي لو أنك - أيّها النّبي - رأيت هؤلاء الظالمين وهم يمرون بشدائد الموت والنزع الأخير، وملائكة قبض الأرواح مادين أيديهم نحوهم ويقولون لهم: هيا أخرجوا أرواحكم، لأدركت العذاب الذي ينزل بهم.
عندئذ تخبرهم ملائكة العذاب بأنّهم سينالون اليوم عذاباً مذلا لأمرين: الأوّل: إنّهم كذبوا على الله، والآخر، إنّهم لم ينصاعوا لآياته: (اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون).
ملاحظات
ينبغي هنا ملاحظة النقاط التّالية:
1 - تعتبر الآية أدعياء النبوة والقادة المزيفين من أشد الظالمين، بل لا ظلم أشدّ من ظلمهم، لأنّهم يسرقون أفكار الناس ويهدمون عقائدهم ويغلقون بوجوههم أبواب السعادة ويحيلونهم إِلى مستعمرين فكرياً لهم.
2 - جملة (باسطوا أيديهم) قد تعني أنّ ملائكة قبض الأرواح تبسط أيديها إِليهم استعداداً لقبض أرواحهم، وقد تعني بسط أيديهم للبدء بتعذيبهم.
3 - (اخرجوا أنفسكم) تعني في الواقع ضرباً من التحقير تبديه الملائكة نحو هؤلاء الظالمين، وإِلاّ فإنّ إخراج الروح ليس من عمل هؤلاء، بل هو من واجب الملائكة، مثل ما يقال للمجرم عند إِعدامه: مت! ولعل هذا التحقير يقابل تحقيرهم لآيات الله وأنبيائه وعباده.
وفي الوقت نفسه تعتبر هذه الآية دليلا آخر على استقلال الروح وانفصالها عن الجسد، كما يستفاد من الآية أنّ تعذيب هؤلاء يبدأ منذ لحظة قبض أرواحهم.
﴿وَمَنْ﴾ لا أحد ﴿أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا﴾ بادعاء النبوة أو الأعم منه ﴿أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ﴾ قيل نزلت في مسيلمة أو ابن أبي سرح كان يكتب للنبي فلما نزل ولقد خلقنا الإنسان إلى قوله خلقا آخر قال متعجبا فتبارك الله أحسن الخالقين فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم) اكتبها فكذلك نزلت فشك فقال إن صدق محمد فقد أوحي إلي كما أوحي إليه وإن كذب فقد قلت كما قال ﴿وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ﴾ وهم الذين قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا وقيل هو ابن أبي سرح ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ شدائده وسكراته من غمره الماء إذا غشيه ﴿وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ﴾ لقبض أرواحهم أو بالعذاب يقولون تغليظا عليهم ﴿أخرجوا أنفسكم﴾ لنقبضها أو خلصوها من العذاب ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ الهوان وإضافته إليه لتمكنه فيه ﴿بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ كالإشراك ودعوى الإيحاء بالكذب ﴿وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ﴾ عن الإيمان بها ﴿تَسْتَكْبِرُونَ﴾ وجواب لو محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا.