التّفسير
خالق كل شيء:
هذه الآيات تشير إِلى جانب من العقائد السقيمة والخرافات التي يؤمن بها المشركون وأصحاب المذاهب الباطلة، وترد عليهم بالمنطق.
فأوّلا: قالوا: إِنّ لله شركاء من الجن (وجعلوا لله شركاء الجن).
فيما يتعلق بالجن، هل المقصود بهم هو المعنى اللغوي الذي يفيد كل كائن غير مرئي ومخفي عن حس الإِنسان، أم هم طائفة الجن التي يرد ذكرها مراراً في القرآن والتي سنشير إِليها قريباً؟ للمفسرين في هذا احتمالان.
على الإِحتمال الأوّل قد تكون الآية إِشارة إِلى الذين كانوا يعبدون الملائكة أو مخلوقات غير مرئية.
وعلى الإِحتمال الثّاني قد تكون الإِشارة إِلى الذين كانوا يعتبرون الجن شركاء لله أو زوجات له.
يقول الكلبي في كتاب "الأصنام": إِنّ إِحدى الطوائف العربية، وتدعي "بنو مليح" وهي إِحدى أفخاذ قبيلة "خزاعة" كانت تعبد الجن (1)، كما يقال إِنّ عبادة الجن والاعتقاد بالوهيتها كانت منتشرة بين مذاهب اليونان الخرافية وفي الهند (2).
ويستدل من الآية (158) من سورة الصافات: (وجعلوا بينه وبين الجنّة نسباً) على أنّه كان بين العرب من يرى بين الله والجن نسباً وقرابة، ويذكر بعض المفسّرين أنّ قريشاً كانت تعتقد أنّ الله قد تزوج الجن، فكان الملائكة ثمرة ذلك الزواج (3).
فينكر الإِسلام عليهم ذلك، إِذ كيف يمكن ذلك وهو الذي خلق الجن: (وخلقهم) أي كيف يمكن أن يكون المخلوق شريكاً للخالق، لأنّ الشركة دليل التماثل والتساوي، مع أنّ المخلوق لا يمكن أن يكون في مصاف خالقه أبداً!
الخرافة الأُخرى هي قولهم جهلا - إِنّ لله بنين وبنات: (وخرقوا له بنين وبنات بغير علم).
أفضل دليل على أنّ هذه العقائد ليست سوى خرافة، هو أنّها تصدر عنهم (بغير علم) أي أنّهم لا يملكون أي دليل على هذه الأوهام.
من الملاحظ أنّ القرآن استعمل لفظة "خرقوا" من الخرق، وهو تمزيق الشيء بغير روية ولا حساب، وهي في النقطة المقابلة تماماً "للخلق" القائم على الحساب، هاتان اللفظتان: "الخلق والخرق" قد تستعملان في حالات الكذب والإِختلاق، مع اختلاف بينهما هو أن (الخلق والإِختلاق) تستعمل في الأكاذيب المدروسة و (الخرق والإِختراق) فيما لا حساب فيه من الكذب.
أي أنّهم اختلقوا تلك الأكاذيب دون أن يدرسوا جوانب الموضوع وبدون أن يعدوا له ما يلزم من الأُمور.
أمّا الطوائف التي كانت تنسب لله البنين، فإِنّ القرآن يذكر في آيات أُخرى اسم طائفتين من هؤلاء:
الأُولى: هم المسيحيون الذين قالوا: إِنّ عيسى ابن الله.
والأُخرى: هم اليهود الذين قالوا: عزير ابن الله.
يستفاد من الآية (30) من سورة التوبة، وممّا توصل إِليه المحققون عن دراسة الجذور المشتركة بين المسيحية والبوذية، وعلى الأخص في موضوع التثليت، أنّ المسيحيين واليهود ليسوا وحدهم الذين نسبوا إبناً لله، بل كان هذا موجوداً في المعتقدات الخرافية القديمة.
أمّا بشأن نسبة بنات لله، فالقرآن نفسه يوضح ذلك في آيات أُخرى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً) (4).
وكما سبقت الإِشارة إِليه، جاء في التفاسير والتواريخ إنّ قريشاً كانت ترى الملائكة بنات الله من زواجه بالجن.
والقرآن يرفض تماماً في نهاية الآية كل هذه الخرافات التي لا أساس لها، وبعبارة حاسمة قاطعة: (سبحان الله وتعالى عما يصفون).
﴿وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ﴾ وقالوا الملائكة بنات الله وسموا جنا لاجتنانهم أو الشياطين إذ أطاعوهم في عبادة الأوثان ﴿وَخَلَقَهُمْ﴾ حال أي وقد خلق الله الجاعلين دون الجن أو خلق الجن ﴿وَخَرَقُواْ﴾ بالتخفيف والتشديد اختلفوا ﴿لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ﴾ كقول أهل الكتابين عزير ابن الله والمسيح ابن الله ومشركي العرب الملائكة بنات الله ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ بحقيقة ما قالوا ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تنزيها له ﴿وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ من الشريك.