ثمّ إنه سبحانه يذكر المسلمين بموقفهم في نهاية معركة "أُحد" فيقول: (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في اخراكم(2)) أي تذكروا إذ فررتم من المعركة، ورحتم تلوذون بالجبل أو تنتشرون في السهل، تاركين رسول الله وحده بين المهاجمين المباغتين من المشركين وهو يدعوكم من ورائكم ويناديكم قائلاً: "إِليّ عباد الله- إِليّ عباد الله فإني رسول الله" وأنتم لا تلتفتون إلى الوراء أبداً، ولا تلبون نداء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي ذلك الوقت أخذت الهموم والأحزان تترى عليكم (فاثابكم غما بغم)، لِما أصابكم من النكسة ولفقدان مجموعة كبيرة من خيار فرسانكم وجنودكم ولِما أصاب جماعة منكم من الجراحات والإصابات ولِما بلغكم من شائعة قتل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
ولقد كان كلّ ذلك من نتائج مخالفتكم لأوامر القيادة النبوية، وتجاهلكم لتأكيداتها بالمحافظة على المواقع المناطة لكم.
ولقد كان هجوم تلك الغموم عليكم من أجل أن لا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم الحرب، وما أصابكم من الجراحات في ساحة المعركة في سبيل تحقيق الإنتصار (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم).
(والله خبير بما تعملون) فهو يعرف جيداً من ثبت منكم وأطاع، وكان مجاهداً واقعياً، ومن هرب وعصى، وعلى ذلك فليس لأحد أن يخدع نفسه، فيدعي خلاف ما صدر منه في تلك الحادثة، فإذا كنتم من الفريق الأول بحق وصدق فاشكروه سبحانه، وإن لم تكونوا كذلك فتوبوا إليه واستغفروه من ذنوبكم.
وساوس الجاهلية:
إتسمت الليلة التي تلت معركة "أُحد" بالقلق والإضطراب الشديدين، فقد كان المسلمون يتوقعون أن يعود جنود قريش الفاتحون المنتصرون إلى المدينة مرة أُخرى لإجتياح البقية الباقية من القوّة الإسلامية، والقضاء على من تبقى من المقاتلين المسلمين، ولعلّ بعض الأخبار كان قد نمّ إلى المسلمين عن إعتزام المشركين ونيتهم في العودة إلى ساحة القتال.
ولاشكّ أنهم لو عادوا لكان المسلمون يواجهون أحلك الظروف في تلك الموقعة.
بيد أنه كان هناك بين المسلمين ثلة من المجاهدين الصادقين الذين ندموا على الفرار من الميدان في "أُحد" فتابوا إلى الله، واطمأنوا إلى وعود النبي الكريم حول المستقبل، قد أخذهم نوم مريح، وغلبهم نعاس هانىء ولذيذ وهم في عدة الحرب، في الوقت الذي كان فيه المنافقون وضعاف الإيمان، والجبناء يعانون من كابوس الأوهام والوساوس طوال الليل، ولم يذوقوا لذة النوم، فكانوا- من حيث لا يشعرون ولا يقصدون- يحرسون المؤمنين الحقيقين الذين كانوا يستريحون في تلك النومة الطارئة اللذيذة.
﴿إِذْ تُصْعِدُونَ﴾ تفرون وتبعدون متعلق بصرفكم أو ليبتليكم أو باذكر مقدرا ﴿وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ﴾ لا يقف أحد لأحد ﴿وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ﴾ ويقول إلى عباد الله ﴿فِي أُخْرَاكُمْ﴾ ساقتكم وجماعتكم الأخرى ﴿فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ﴾ عطف على صرفكم أي فجازاكم غما بسبب غم أذقتموه الرسول بعصيانكم له أو فجازاكم عن فشلكم وعصيانكم غما متصل بغم بالإرجاف بقتل الرسول وظفر المشركين والقتل والجرح ﴿لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ من المنافع ﴿وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ﴾ من المضار ﴿وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ عالم بأعمالكم.