وإلى هذا كلّه يشير الكتاب العزيز في الآية الحاضرة إذ يقول: (ثمّ أنزل عليكم من بعد الغم امنة(3) نعاساً يغشى طائفة منكم، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم).
أجل، إن المنافقين والجبناء وضعاف النفوس والإيمان لم يزرهم النوم ولا حتى النعاس في تلك الليلة خوفاً على نفوسهم، وعلى أرواحهم، وجرياً وراء الوساوس الشيطانية، والمخاوف التي هي من طبيعة ولوازم النفاق وضعف اليقين ووهن الإيمان، فيما ان المؤمنون الصادقون يستريحون في ذلك النعاس اللذيذ، وتلك النومة الطارئة الهانئة، وهذا هو أحد آثار الإيمان وثماره المهمة البارزة، فإن المؤمن يحظى بالراحة والطمأنينة حتّى في هذه الدنيا، على العكس من غير المؤمنين من الكفار أو المنافقين أو ضعاف الإيمان، فإنهم محرومون من الطمأنينة والراحة اللذيذة تلك.
ثمّ إن القرآن الكريم يعمد إلى بيان واستعراض طبيعة ما كان يدور بين أُولئك المنافقين وضعاف الإيمان من أحاديث وحوار، وما كان يدور في خلدهم من ظنون وأفكار، إذ يقول: (يظنون بالله غير الحقّ ظن الجاهلية).
إنّهم كانوا يظنون بالله ما كانوا يظنونه به أيام كانوا يعيشون في الجاهلية، وقبل أن تبزغ عليهم شمس الإسلام، فقد كانوا يتصورون أن الله سيكذبهم وعده، ويظنون أن وعود النبي غير محققة ولا صادقة، وكان يقول بعضهم للآخر: (هل لنا من الأمر من شيء) أي هل سيصيبنا النصر ونحن في هذه الحالة من السقوط والهزيمة، والمحنة والبلية؟ إنهم كانوا يستبعدون أن ينزل عليهم نصر من الله بعد ما لقوا، أو كانوا يرون ذلك محالاً.
ولكن القرآن يجيبهم قائلاً (قل إن الأمر كلّه لله) أي كيف تستبعدون ذلك أو ترونه محالاً والأمر كلّه بيد الله، وهو قادر أن ينزل عليكم النصر متى وجدكم أهلاً لذلك.
على أنهم لم يظهروا كلّ ما كان يدور في خلدهم من ظنون وأوهام وهواجس خوفاً من أن يعدوا في صفوف الكفار: (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك).
وكأنهم كانوا يتصورون أن الهزيمة في "أُحد" من العلائم الدالة على بطلان الإسلام، ولذا كانوا يقولون: (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا) أي لو كنا على حق لكسبنا المعركة، ولم نخسر كلّ هذه الأرواح والنفوس.
ولكن الله تعالى أجابهم وهو يشير في هذه الإجابة إلى مطلبين.
الأول: إن عليكم أن لا تتوهموا بأن الفرار من ساحة المعركة، وتجنب الصعاب يمكنه أن ينقذكم من الموت الذي هو قدر لكلّ إنسان ولهذا يقول سبحانه: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتال إلى مضاجعهم) فإن الذين جاء أجلهم، وحان حين موتهم لابدّ أن يموتوا ولا محالة هم مقتولون حتّى لو كانوا في مضاجعهم.
وفي الأساس فإن كلّ أُمة استحقت الهزيمة لوهن أكثريتها، لابدّ أن تذوق الموت، ولا محالة يصيبها القتل، فالأجدر بها أن تموت في ساحات المعارك، وتحت ضربات السيوف، وهي تسطر ملاحم البطولة، وتخط أسطر البسالة، لا أن تموت خانعة، أو تقتل ذليلة على فراشها، وما أروع ما قاله الإمام علي إذ قال (عليه السلام): "لألف ضربة بالسيف أحب إليَّ من ميتة على فراش".
والثاني: إن هذه الحوادث لابدّ أن تقع حتّى يبدي كلّ واحد مكنون صدره، ومكتوم قلبه، فتتشخص الصفوف، وتتميز جواهر الرجال، هذا مضافاً إلى أن هذه الحوادث سبب لتربية الأشخاص شيئاً فشيئاً، ولتخليص نياتهم، وتقوية إيمانهم، وتطهير قلوبهم (وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم).
ثمّ يقول سبحانه: في ختام هذه الآية (والله عليم بذات الصدور) ولذلك فهو لا ينظر إلى أعمال الناس بل يمتحن قلوبهم، ليطهرها من كلّ ما تعلق بالنفوس والأفئدة من شوائب الشرك والنفاق، والشك والتردد.
﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً﴾ أمنا مفعول ﴿نُّعَاسًا﴾ بدل عن أبي طلحة: غشينا الناس في مصافنا وكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ﴿يَغْشَى﴾ النعاس وقرىء بالتاء أي الأمنة ﴿طَآئِفَةً مِّنكُمْ﴾ خلص المؤمنين ﴿وَطَآئِفَةٌ﴾ هم المنافقين ﴿قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ﴾ ما بهم إلا هم خلاص أنفسهم ﴿يَظُنُّونَ بِاللّهِ﴾ صفة أخرى لطائفة أو حال أو استيناف ﴿غَيْرَ﴾ الظن ﴿الْحَقِّ﴾ الذي يجب أن يظن به ﴿ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ بدل ﴿يَقُولُونَ﴾ للرسول ﴿هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ﴾ أمر الله أي النصر والفتح ﴿مِن شَيْءٍ﴾ نصيب ﴿قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ النصر أو مطلقا لله وأوليائه ﴿يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ﴾ يظهرون أنهم مسترشدون ويبطنون النفاق ﴿يَقُولُونَ﴾ في أنفسهم أو بعضهم لبعض ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ﴾ النصر الموعود به ﴿شَيْءٌ﴾ أو كان لنا اختياره ﴿مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾ لما غلبنا وقتل أصحابنا هنا ﴿قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ﴾ في علم الله ﴿إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ مصارعهم ليكون ما علم كونه و﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ من الإخلاص علة لمحذوف أي فعل ذلك ليبتلي أو عطف على محذوف أي برزوا لمصالح وللابتلاء ﴿وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ ليخلصه من الشك ﴿وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بأسرارها قبل ظهورها وفيه وعد ووعيد.