وباعوا أنفسهم بأسوأ ثمن: ﴿بِئْسَ مَا اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾.
لقد ضيعوا كل شيء وكأنهم أرادوا أن يكون النّبي الموعود من بني إسرائيل، ولهذا تألّموا من نزول القرآن على غيرهم، بل ممن شاءه الله: ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ الله مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾.
ولذلك شملهم غضب الله المتوالي: ﴿فَبَاءُو بِغَضَب عَلى غَضَب وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.
بحثان
1 - صفقة خاسرة:
إنه لخسران عظيم أن تتهيّاً للإنسان كل سبل الهداية ثم يعرض عنها لأُمور تافهة، واليهود المعاصرون للنبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) هم من أُولئك، توفّرت لهم كل هذه السبل، بل تحركوا زمناً يبتغون مصدر هذه الهداية، وعثروا بعد جهد على مبتغاهم حين حطوا رحالهم بين «العير» و«أُحد» انتظاراً للنبي الموعود، ثم إذا هم يخسرون كل شيء، حين علموا أن هذا النّبي المبعوث ليس من بني إسرائيل، أو أنه لا يحقق مصالحهم الشخصية.
ما أكبر الخسارة حين يبيع الإنسان نفسه بهذا الشكل ويشتري بها غضب الله عزّوجلّ! بينما ليس لوجود الإنسان ثمن إلاَّ الجنّة كما يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : «إنَّهُ لَيْسَ لاَِنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إلاَّ الْجَنَّةَ فَلا تَبيعُوهَا إلاَّ بِهَا».
عبارة «اشتراء النفس» أي بيعها توحي أن الإتجاه نحو طريق الضلال بيعٌ للنفس، وكأن الكافر يبيع شخصيته الإنسانية، لأن الكفر يهدم قيمة الانسان من الاساس، وبعبارة اُخرى إنه يكون كالعبيد الذين باعوا أنفسهم فأمسوا اسرى بيد الآخرين... أجل إنّهم أسرى الأهواء وعبيد الشيطان.
2 - غضب على غضب:
القرآن الكريم قال عن بني إسرائيل حين تاهوا في صحراء سيناء بأنَّهُمْ ﴿وَبَاءُوَ بِغَضَب مِنَ الله﴾ بسبب كفرهم بآيات اللّه وقتلهم الأنبياء وفي سورة آل عمران الآية 12، ورد هذا المعنى أيضاً وأن اليهود بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء باءوا بغضب من الله تعالى.
وهذا هو الغضب الاول.
وهؤلاء أحفادهم من اليهود المعاصرين للبعثة المحمّدية ساروا على طريق أسلافهم في الكفر بالرسالة، وزادوا على ذلك بوقوفهم بوجه الرّسول وتآمرهم على الدعوة ولذلك قال عنهم «فباءو بغضب على غضب».
و«باءُو» بمعنى رجعوا - وأقاموا في المكان - وهنا تعني استحقاقهم لعذاب الله.
فكأنهم عادوا وهم محملون بهذا الغضب الإلهي، أو كأنهم اتخذوا موقفاً يغضب الله.
هؤلاء القوم كانوا يعيشون أمل ظهور النّبي المنقذ، قبل دعوة موسى وقبل دعوة النّبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكان موقفهم من الرّسولين الكريمين واحداً، هو النكول والإعراض، واستحقوا غضب الله وسخطه مرّة بعد اُخرى.
﴿بِئْسَمَا﴾ ما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس المستكن أي بئس شيئا ﴿اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ﴾ باعوها به صفة ما ﴿أَن يَكْفُرُواْ﴾ هو المخصوص بالذم ﴿بِمَا أنَزَلَ اللّهُ﴾ على موسى من تصديق محمد ﴿بَغْياً﴾ لبغيهم وحسدهم ﴿أَن يُنَزِّلُ﴾ لأن أو على أن ينزل ﴿اللّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ أي بالوحي ﴿عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ﴾ كما أنزل القرآن على محمد ﴿فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ﴾ حين كذبوا بعيسى فجعلوا قردة ﴿عَلَى غَضَبٍ﴾ حين كذبوا بمحمد فسلط عليهم السيف ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ أي لهم أظهر لما مر ﴿عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ مذل.