أجل ليس المراد من التوكل هو هذا المفهوم الخاطىء، بل المراد منه هو أن لا ينحصر الإنسان في حصار هذا العالم المادي، وفي حدود قدرته الضيقة، فلاينطلق قدماً إلى الأمام، بل يعلّق أمله- إلى جانب الأخذ بالأسباب- على عناية الله وحمايته ولطفه ومنّه.
ولاريب أن مثل هذه الإلتفاتة تهب للإنسان استقراراً نفسياً عالياً، وطاقة روحية فعالة، ومعنوية تتضائل أمامها كلّ الصعاب والمشاق، وتتحطم عندها كلّ أمواج المشكلات العاتية، أو تنزاح أمامها كلّ الأهوال (وسوف نشرح بإسهاب إن شاء الله مسألة التوكل وكيفية العلاقة بينها وبين الإستفادة من وسائل العالم المادي في ذيل قوله تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً)(7).
ثمّ إنه سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين في ختام الآية أن يتوكلوا على الله فحسب لأنه تعالى يحب المتوكلين إذ يقول: (إن الله يحب المتوكلين).
هذا ويستفاد من هذه الآية أن التوكل يجب أن يكون بعد التشاور، وبعد الأخذ والإستفاده من جميع الإمكانيات المتاحة للإنسان حتماً.
نتيجة التوكل وثمرته:
بعد أن يحث الباري سبحانه وتعالى عباده على أن يتوكلوا عليه، يبين في هذه الآية- التي هي مكملة للآية السابقة- نتيجة التوكل وثمرته وفائدته العظمى فيقول: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده) وهو بهذا يشير إلى أن قدرة الله فوق كلّ القدرات، فإذا أراد بعبد خيراً وأراد نصره وتأييده والدفاع عنه لم يكن في مقدور أية قوة في الأرض- مهما عظمت- أن تتغلب عليه، فمن كان- هكذا- منبع كلّ الإنتصارات، وجب التوكل عليه، واستمداد العون منه.
فهذه الآية تتضمن ترغيباً للمؤمنين بأن يتكلوا على الله وقدرته التي لا تقهر، مضافاً إلى تهيئة كلّ الوسائل الظاهرية، والأسباب العادية.
والكلام في الآية السابقة موجه إلى شخص النبي الأكرم (ص) وأمر له في الحقيقة ولكنه في هذه الآية موجه إلى جميع المؤمنين وكأنها تقول لهم: إن عليهم أن يتوكلوا على الله كما يفعل النبي، ولهذا يختم هذه الآية بقوله: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون).
ولايخفى أن تأييد الله للمؤمنين أو عدم تأييده ليس من غير حساب، فهو يتم بناءً على أهليتهم لذلك.
فمن أعرض عن تعاليم الله، وغفل عن تحصيل المقومات المادية والمعنوية وتقاعس عن إعداد القوى العادية اللازمة لم يشمله التأييد الإلهي مطلقاً، على العكس من الذين استعدوا لمواجهة الأعداء بصفوف متراصة ونيات خالصة وعزائم راسخة، مهيئين كلّ الوسائل اللازمة للمواجهة، فإن تأييد الله سيشمل هؤلاء، وستكون يد الله معهم حتّى تحقيق الإنتصار.
﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ﴾ كما نصركم ببدر ﴿فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ﴾ كما في أحد ﴿فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ﴾ بمعنى النفي ﴿وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ إذ لا ناصر سواه.