لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير النعمة الإلهية الكبرى: في هذه الآية يدور الحديث حول أكبر النعم الإلهية، ألا وهي نعمة "بعثة الرسول الأكرم والنبي الخاتم" (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو في الحقيقة إجابة قوية على التساؤل الذي خالج بعض الأذهان من الحديثي العهد بالإسلام بعد "معركة أُحد" وهو: لماذا لحق بنا ما لحق، ولماذا أصبنا بما أصبنا به؟ فيجيبهم القرآن الكريم بقوله: (لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم) أي إذا كنتم قد تحملتم كلّ هذه الخسائر، وأصبتم بكلّ هذه المصائب، فإن عليكم أن لا تنسوا أن الله قد أنعم عليكم بأكبر نعمة، ألا وهي بعثه نبي يقوم بهدايتكم وتربيتكم، وينقذكم من الضلالات وينجيكم من المتاهات، فمهما تحملتم في سبيل الحفاظ على هذه النعمة العظمى والموهبة الكبرى، ومهما كلفكم ذلك من ثمن، فهو ضئيل إلى جانبها، وحقير بالنسبة إليها. والجدير بالإهتمام- في المقام- هو أن هذه النعمة قد شرع ذكرها بكلمة "منّ" التي قد لا تبدو جميلة ولا مستحسنة في بادىء الأمر، ولكننا عندما نراجع مادة هذه اللفظة وأصلها اللغوي يتضح لنا الأمر غاية الوضوح، وتوضيحه هو: ان المن- كما قال الراغب في مفرداته: هو ما يوزن به، ولذلك أطلق على النعمة الثقيلة: المنة، ويقال ذلك إذا كان ذلك بالفعل، فيقال: منَّ فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة الجميلة الثمينة وهو حسن لا بأس فيه، أما إذا عظّم أحد- في القول والإدعاء- ما قام به من حقير الخدمات والأفعال والصنائع فهو في غاية القبح. وعلى هذا فإن المن المستقبح هو الذي يكون استعظاماً للصنائع والنعم في القول، أما المنة المستحسنة فهي بذل النعم الكبرى والصنائع العظيمة. أما تخصيص المؤمنين بالذكر في هذه الآية في حين أن الهدف من بعثة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)هو هداية عموم البشر، فلأن المؤمنين هم الذين سيستفيدون- بالنتيجة والمآل- من هذه النعمة العظمى فهم الذين يستأثرون بآثارها عملاً دون غيرهم. ثمّ إن الله سبحانه يقول: (من أنفسهم) أن إحدى مميزات هذا النبي (ص) هو أنه من نفس الجنس والنوع البشري، لا من جنس الملائكة وما شابهها، وذلك لكي يدرك كلّ إحتياجات البشر بصورة دقيقة، ولا يكون غريباً عنها، غير عارف بها، وحتّى يلمس آلام إلانسان وآماله، ومشكلاته ومصائبه، ومتطلبات الحياة ومسائلها، ثمّ يقوم بما يجب أن يقوم به من التربية والتوجيه على ضوء هذه المعرفة. هذا مضافاً إلى أن القسط الأكبر من برامج الأنبياء التربوية يتكون من تبليغهم العملي بمعنى أن أعمالهم تعتبر أفضل مثل، وخير وسيلة تربوية للآخرين، لأن التبليغ بلسان العمل أشد تأثيراً، وأقوى أثراً من التبليغ بأية وسيلة أُخرى، وهذا إنما يمكن إذا كان المبلّغ من نوع البشر وجنسه بخصائصه، ومواصفاته الجسمية، وبذات غرائزه وبنائه الروحي. فإذا كان الأنبياء من جنس الملائكة- مثلاً- كان للبشر الذين أرسل الأنبياء إليهم أن يقولوا: إذا كان الأنبياء لا يعصون أبداً، فلأجل أنهم من الملائكة ليست في طبائعهم الشهوات والغرائز، ولا الغضب ولا الحاجة. وهكذا كانت رسالة الأنبياء ومهمتهم تتعطل وتفقد تأثيرها، ولا تحقق أغراضها. ولهذا أختير الأنبياء من جنس البشر ومن فصيلة الإنسان بغرائزه، وإحتياجاته، ليمكنهم أن يكونوا أسوة لغيرهم من البشر، وقدوة لسواهم من بني الإنسان. ثمّ إن الله سبحانه يقول واصفاً مهمات هذا النبي العظيم: (يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) أي أنه (ص) يقوم بثلاثة أُمور في حقّهم: 1- تلاوة آيات الله على مسامعهم، وإيقافهم على هذه الآيات والكلمات الإلهية. 2- تعليمهم بمعنى إدخال هذه الحقائق في أعماق ضمائرهم وقلوبهم. 3- تزكية نفوسهم، وتنمية قابلياتهم الخلقية، ومواهبهم الإنسانية. ولكن حيث إن الهدف الأصلي هو "التربية" لذلك قدمت على "التعليم" مع أن الحال- من حيث الترتيب الطبيعي- تقتضي تقديم التعليم على التربية. إن الذين يبتعدون عن الحقائق الإنسانية بالمرة، ليس من السهل إخضاعهم للتربية، فلابدّ أولاً من إسماعهم آيات الله مدة من الزمن حتّى تذهب عنهم الوحشة التي وقعوا فريسة لها من قبل، ليتسنى حينئذ إدخالهم في مرحلة التعليم، ثمّ يمكن اقتطاف ثمار التربية بعد ذلك. ثم إن هناك إحتمالاً آخر في تفسير الآية وهو أن المقصود من التزكية هو التنقية من رواسب الجاهلية والشرك، ومن بقايا العقائد الباطلة والأفكار الخرافية، والأخلاق الحيوانية القبيحة لأن الضمير الإنساني ما دام لم يطهر من الأدران والرواسب لم يمكن إعداده وتهيئته لتعليم الكتاب الإلهي، والحكمة والعلم الواقعيين، تماماً مثل اللوحة التي لا تقبل الألوان والنقوش الجميلة ما لم تنظف من النقوش القبيحة أولاً. ولهذا السبب قدمت التزكية فى الآية الحاضرة على تعليم الكتاب والحكمة التي يراد بها معارف الإسلام العالمية، ومفاهيمه السامية. متى تعرف قيمة البعثة النبوية؟ إن أهمية هذه النعمة العظمى (البعثة النبوية) إنما تتضح تمام الوضوح وتتجلى تمام الجلاء عندما يقاس الوضع الذي آلوا إليه بالوضع الذي كانوا عليه، وملاحظة مدى التفاوت بينهما وهذا هو ما يعنيه قوله: (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين). وكأن القرآن يخاطبهم قائلاً: إرجعوا إلى الوراء وانظروا إلى ما كنتم عليه من سوء الحال قبل الإسلام، كيف كنتم، وكيف صرتم؟؟ إن الجدير بالتأمل هو وصف القرآن الكريم للعهد الجاهلي بقوله: (ضلال مبين)لأن للضلال أنواعاً وأصنافاً: فمن الضلال ما لايمكن معه للإنسان أن يميز بين الحق والباطل، والخطأ والصواب بسهولة، ومن الضلال ما يكون بحيث لو رجع الإنسان إلى نفسه أدنى رجوع، وتمتع بأقل قدر من الإدراك والشعور إهتدى إلى الصواب وأدرك الخطأ فوراً. ولقد كان الناس وخاصة سكان الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية المباركة، ومجيء الرسول الأكرم (ص) بالإسلام في ضلال مبين، فقد كان الشقاء والجهل، وغير ذلك من حالات الإنحطاط والسقوط والفساد سائداً في كلّ أرجاء المعمورة في ذلك العصر، وهو أمر لم يكن خافياً على أحد. ﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ﴾ خصوا مع عموم نعمة البعث لأنهم المنتفعون بها ﴿إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ﴾ عربيا مثلهم ليسهل عليهم فهم كلامه أو من نسبهم ليكونوا عارفين صدقه ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ القرآن وكانوا من قبل جهالا لم يسمعوا وحيا ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ يطهرهم من دنس العقائد والأعمال ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ القرآن والسنة ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ﴾ قبل بعثه ﴿لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ ظاهر.