ثمّ يقول سبحانه في المقطع التالي من الآية: (وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا).
إنه إشارة إلى أثر آخر من آثار هذه الحرب وهو تمييز المؤمنين عن المنافقين، وفرز أقوياء الإيمان عن ضعفاء الإيمان.
وعلى العموم فقد تميز المسلمون- في معركة أُحد- في طوائف ثلاث:
الطائفة الأُولى: وهم قلة، قد ثبتوا أمام العدو في تلك الموقعة حتّى آخر لحظه، حتّى قضى بعض وجرح بعض وتحمل أشد الآلام.
الطائفة الثانية: هم الذين زلزلوا، ووقعوا فريسة الإضطراب ولم يمكنهم الثبات حتّى آخر لحظة، ففروا من الميدان.
الطائفة الثالثة: وهم جماعة المنافقين الذين رجعوا من منتصف الطريق وأحجموا عن المشاركة والإسهام في القتال بحجج وأعذار واهية، وعادوا إلى المدينة، وهم عبدالله بن أبي سلول، وثلائمائة شخص من أعوانه وأنصاره وجماعته.
فلو لم تقع حادثة أُحد لما تميزت هذه الصفوف مطلقاً، ولما إتضح الأمر بمثل هذا الإتضاح أبداً، ولما تبين كلّ شخص بقسماته الحقيقية، وملامحه الواقعية وصفاته الخاصة به، وبالتالي كان يمكن أن يتصور الجميع- في مقام الإدعاء- أنهم مؤمنون واقعيون، وأنهم الأمثلة الكاملة للصالحين.
وفي الحقيقة- تتضمن الآية الإشارة إلى أمرين:
الأول: العلة الفاعلية للهزيمة.
الثاني: العلة الغائية (والنتيجة النهائية) لها.
على أن هناك نقطة يلزم التنويه بها وهي أن الآية الحاضرة تقول: (وليعلم الذين نافقوا) ولم تقل "ليعلم المنافقين".
وبتعبير آخر: جاء ذكر النفاق بصيغة الفعل، ولم يأت بصورة "الوصف" وهو- لعلّهـ لأجل أن النفاق لم يكن قد حصل في الجميع في شكل الصفة الثابتة اللازمة ولهذا نقرأ في التاريخ أن بعضهم قد وفق للتوبة وهدي إليها فيما بعد، وإلتحق بصف المؤمنين الصادقين، ثمّ إن القرآن الكريم يستعرض حواراً قد وقع بين بعض المسلمين، والمنافقين قبل المعركة بالشكل التالي: (وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) فإن بعض المسلمين "وهو عبدالله بن عمر بن حزام على ما نقل عن ابن عباس) عندما رأى إنسحاب عبدالله بن أبي سلول وإنفصالهم عن الجيش الإسلامي، وإعتزامهم العودة إلى المدينة قال: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا عن حريمكم وأنفسكم إن لم تقاتلوا في سبيل الله.
ولكنهم تعللوا، واعتذروا بأعذار واهية إذ قالوا: (لو نعلم قتالاً لاتبعناكم) أي إننا نظن أن الأمر ينتهي بلا قتال فلا حاجة لوجودنا معكم.
وبناءً على تفسير آخر قال المنافقون: لو أننا كنا نعتبر هذا قتالاً معقولاً لتعاونا معكم ولاتبعناكم، ولكننا لا نعتبر هذا قتالاً بل نوعاً من الإنتحار والمغامرة الإنتحارية لعدم التكافؤ بين قوى الكفر وقوى الإسلام، الأمر الذي يعني أن قتالهم أمر غير عقلائي، خاصة أن الجيش الإسلامي قد استقر في مكان غير مناسب ونقطة غير مؤاتية ولا ملائمة.
وعلى كلّ حال فإن هذه كانت مجرد اعتذارات وتعللات، لأن الحرب كانت حتمية الوقوع، ولأن المسلمين إنتصروا في بداية المعركة، وأما ما لحق بهم من الهزيمة والإنكسار فلم يكن إلاّ بسبب أخطاء ومخالفات إرتكبوها هم أنفسهم بحيث لولاها لما وقعت بهم هزيمة، ولذا يقول الله سبحانه: (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) (أي أنهم يكذبون)، هذا مضافاً إلى أنه يستفاد من هذه الجملة (أي أقرب) أن للإيمان والكفر درجات ترتبط باعتقاد الإنسان وأسلوب عمله وسلوكه.
ثمّ علل سبحانه ما ذكره عنهم بقوله: (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم)أي أنهم يظهرون خلاف ما يضمرون، ويبدون من القول خلاف ما يكتمون من الاعتقاد والنية، فإنهم لإصرارهم على إقتراحهم بالقتال داخل أسوار المدينة، أو رهبة من ضربات العدو، أو لعدم حبهم للإسلام إحجموا عن الإسهام في تلك المعركة، وامتنعوا عن المضي إلى أُحد في صحبة المسلمين، (والله أعلم بما يكتمون)فإن الله يعلم جيداً ما يخفونه ويضمرونه من النوايا، وسيكشف عن نواياهم للمسلمين في هذه الدنيا، كما سيعاقبهم ويحاسبهم على مواقفهم ونواياهم الشريرة في الآخرة.
ليتميز الفريقان فيظهر إيمان المؤمنين وكفر المنافقين ﴿وَقِيلَ لَهُمْ﴾ عطف على نافقوا أو كلام مبتدأ ﴿الْجَمْعَانِ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ﴾ خيروا بين أن يقاتلوا للآخرة أو للدفع عن أنفسهم أو المعنى قاتلوا العدو أو ادفعوا بتكثيركم سواد المجاهدين فإن كثرة السواد مما يروعهم ﴿قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ﴾ لو نحسن ﴿قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ﴾ أو لو نعلم ما يسمى قتالا لاتبعناكم فيه لكنه ليس بقتال بل إلقاء النفس إلى التهلكة ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ﴾ أي هذا القول أمارة كفرهم، أو أنه تقوية لقول المشركين ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ من النفاق.