سبب النزول
عندما هاجر المسلمون من مكّة إِلى المدينة وابتعدوا عن دورهم وديارهم، راحت أيدي المشركين تطال أموالهم وتمتدّ إِلى ممتلكاتهم، وتنالها بالتصرف والسيطرة عليها، وإِيذاء كلّ من وقعت عليه أيديهم والإِيقاع فيه بالهجاء والإِستهزاء.
وعندما جاؤوا إِلى المدينة، واجهوا أذى اليهود القاطنين في المدينة، خاصّة "كعب بن الأشرف" الذي كان شاعراً سليط اللسان، فقد كان كعب هذا يهجو النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين ويحرض المشركين عليهم حتى أنّه كان يشبب بنساء المسلمين ويصف محاسنهن ويتغزل بهن.
وقد بلغت وقاحته مبلغاً دفعت بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى أنْ يأمر بقتله، فقتل على أيدي المسلمين غيلة.
والآية الحاضرة - حسب بعض الأحاديث المنقولة عن المفسرين - تشير إِلى هذه الأُمور وتحث المسلمين على مواصلة الصمود والمقاومة.
التّفسير
لا تتعبكم المقاومة:
( لتبلون في أموالكم وأنفسكم) أجل إنّ هذه الحياة - أساساً - ساحة إختبار ودار إِمتحان، فلابدّ أن يتهيأ الإِنسان لمواجهة كل الحوادث والمفاجئات الصعبة العسيرة، وهذا في الحقيقة تنبيه وتحذير لجميع المسلمين بأن لا يظنوا بأن الحوادث العسيرة في حياتهم قد إنتهت، أو أنّهم قد تخلصوا من أذى الأعداء، وسلاطة لسانهم بمجرد قتلهم لكعب بن الأشرف الشاعر السليط اللسان الذي كان يؤذي المسلمين بلسانه، وشعره.
ولهذا قال سبحانه: (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً).
إِنّ مسألة التعرض الأذى المشركين اللساني وسبهم وشتمهم وهجائهم وإِن كانت من إحدى الإِبتلاءات التي جاء ذكرها في مطلع الآية، ولكنه ذكر هنا بخصوصه للأهمية الفائقة، لأن مثل هذا قلّما يتحمله الشرفاء من الناس لعظيم أثره في أرواحهم ونفوسهم، ومن قديم قال الشاعر:
جراحات السنان لها التيام ----- ولا يلتام ما جرح اللسان
ثمّ أنّه سبحانه عقب على هذا الإِنذار والتنبيه بقوله: (وإِن تصبروا وتتقوا فإِن ذلك من عزم الأُمور).
وبهذا يبيّن القرآن وظيفة المسلمين وواجبهم في أمثال هذه الحوادث الصعبة والظروف العسيرة، ويدعوهم إِلى الصبر والإِستقامة والصمود والتزام التقوى في مثل هذه الحوادث معلناً بأن هذه الأُمور من الأُمور الواضحة النتائج، ولذلك يتعين على كل عاقل أن يتخذ موقفه منها.
والعزم في اللغة هو "القرار المحكم" وربّما يطلق على مطلق الاُمور المحكمة، وعلى هذا فإِن "عزم الأُمور" يعني الأعمال البينة الرشد التي يجب على كل إِنسان عاقل العزم عليها أو بمعنى كل أمر محكم يطمأن إِليه.
واقتران الصبر بالتقوى في هذه الآية لعله إِشارة إِلى أن بعض الأشخاص قد يصبرون ولكنهم مع ذلك يظهرون الشكوى، ويبدون التبرم بما لقوا، ولكن المؤمنين الصادقين هم الذين يمزجون الصبر بالتقوى دائماً وأبداً ويتجنبون مثل ذلك السلوك.
﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ لتمتحن ﴿فِي أَمْوَالِكُمْ﴾ بإخراج الزكاة ﴿وَأَنفُسِكُمْ﴾ بالتوطين على الصبر بالقتل والأسر والجراح والمصائب ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا﴾ من هجاء النبي والطعن في الدين والصد عن الإيمان، أخبروا بذلك قبل كونه ليوطنوا أنفسهم على الصبر حتى لا يرهقهم وقوعه ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ﴾ على ذلك ﴿وَتَتَّقُواْ﴾ المعاصي ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ مما يجب العزم عليه منها أو مما عزم الله عليه أي أوجب.