التّفسير
بعد ذكر جملة من أعمال أهل الكتاب المشينة ومخالفاتهم تشير الآية الحاضرة إِلى واحدة أُخرى من تلك الأعمال والمخالفات، ألا وهو كتمان الحقائق فتقول: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتو الكتاب لتبيّننه للناس ولا تكتمونه)، أي اذكروا اِذ أخذ الله مثل هذا الميثاق منكم.
والملفت للنظر أن عبارة "لتبيّننه" جاءت مع لام القسم، ونون التأكيد الثقيلة، وذلك نهاية في التأكيد.
ثمّ أردفها - مع ذلك - بقوله: "ولا تكتمونه" الذي هو أمر صريح بعدم الكتمان والإِخفاء.
ومن كل هذه التعابير يتضح أو يستفاد أن الله سبحانه قد أخذ بوساطة الأنبياء السابقين آكد المواثيق والعهود من أهل الكتاب لإِظهار الحقائق، وبيانها، ولكنّهم رغم كل ذلك - خانوا تلك العهود وتجاهلوا تلك المواثيق، وأخفوا ما أرادوا إخفائه من حقائق الكتب السماوية، ولهذا قال سبحانه عنهم (فنبذوه وراء ظهورهم) أنّها كناية رائعة عن عدم العمل بالواجب وتناسيه، لأن الإِنسان إِذا عزم على العمل بشيء وأراد جعله ملاكاً له، فإِن يجعله قدامه، وينظر إِليه مرة بعد اُخرى، ولكنه إِذا لم يرد العمل به وأراد تناسيه بالمرة أزاحه من وجهه، وألقاه خلف ظهره.
ثمّ أنّه سبحانه أشار إِلى حرص اليهود وجشعهم وحبّهم المفرط للدنيا إِذ يقول: (يواشتروا به ثمناً قلي فبئس ما يشترون).
إِن حبّهم الشديد للدنيا الذي بلغ حد العبادة، وإنحطاطهم الفكري آل بهم إِلى أن يكتموا الحقائق لقاء مكاسب مادية، ولكن الآية تقول: أنهم لم يشتروا بذلك يولم يكسبوا إِلاّ ثمناً قلي، وبئس ما يشترون.
ولو أنهم قد حصلوا لقاء كتمان الحقائق - هذه الجريمة الكبرى - على ثروة عظيمة وطائلة لكان ثمّة مجال لأن يقال: إِنّ عظمة المال والثروة قد أعمت أبصارهم وأسماعهم، ولكن الذي يدعو إِلى الدهشة والعجب أنّهم باعوا كلّ ذلك لقاء ثمن بخس ومتاع قليل، (طبعاً المقصود هنا هو علماؤهم الدنيئو الهمة).
العلماء والوظيفة الكبرى:
إِن الآية الحاضرة وإِن كانت قد وردت بحق أهل الكتاب (من اليهود والنصارى) إِلاّ أنّها في الحقيقة تحذير وإِنذار لكل علماء الدين ورجاله بأن عليهم أن يجتهدوا في تبليغ الحقائق وبيان الأحكام الإِلهية، وتوضيحها وإِظهارها بجلاء، وإِن ذلك ممّا كتبه الله عليهم، وأخذ منهم ميثاقاً مؤكداً وغليظاً.
إِنّ كلمة "لتبيّننه" وما اشتقت منه في أصل اللغة في هذه الآية تكشف عن أنّ المقصود ليس هو فقط تلاوة آيات الله أو نشر ما احتوت عليه الكتب السماوية من كلمات وعبارات، بل المقصود هو عرض ما فيها من الحقائق على الناس، وجعلها في متناول الجميع بوضوح ودون غبش ليقف عليها الناس أجمعون من دون إِبهام، ويتذوقونها بأرواحهم وأفئدتهم دون أيّة حجب وسدود.
فالذين يتقاعسون أو يقصرون في عرض الحقائق الإِلهية وبيانها وتوضيحها للمسلمين لا شك تشملهم هذه الآية، وينالهم نفس المصير الذي ذكره الله فيها لعلماء اليهود وأحبارهم.
فقد روى عن النّبي الأكرم - (صلى الله عليه وآله وسلم) - أنّه قال: "من كتم علماً عن أهله ألجم يوم القيامة بلجام من نار".
وعن الحسن بن عمار قال: أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت: إِن رأيت أن تحدّثني فقال: أو ما علمت أنّي تركت الحديث، فقلت: إِمّا أن تحدّثني وإِمّا أن أحدثك؟ فقال: حدّثتي فقلت: حدّثني الحكم بن عيينة عن نجم الجزار قال: سمعت علي بن أبي طالب(عليه السلام) يقول: "ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا".
قال: فأطرق برأسه ملياً بعد أن سمع قولي ثمّ قال: اسمع لأحدثك، فحدثني أربعين حديثاً.(1)
هذا وللتعرف - بصورة أكبر - على خيانات أحبار اليهود وعلماء النصارى، راجع الآيات (79 و 174) من سورة البقرة، والآيات (71 إِلى 77) من سورة آل عمران.
﴿وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ﴾ أي العلماء به ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ حكاية مخاطبتهم وقرىء بالياء ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ أي الميثاق ﴿وَرَاء ظُهُورِهِمْ﴾ كناية عن الطرح وترك الاعتناء ﴿وَاشْتَرَوْاْ بِهِ﴾ أخذوا بدله ﴿ثَمَناً قَلِيلاً﴾ من عرض الدنيا ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾.