سبب النزول
ذكر المحدّثون والمفسرون أسباباً عديدة لنزول هذه الآية، منها أن اليهود كانوا يفرحون لما يقومون به من تحريف لآيات الكتب السماوية وكتمان حقائقها ظناً منهم بأنّهم يحصلون من وراء ذلك على نتيجة، وفي الوقت نفسه كانوا يحبّون أن ينسبهم الناس إِلى العلم، ويعتبرونهم من حماة الدين فنزلت هذه الآية ترد على تصورهم الخاطىء هذا.
وقال آخرون أنّها نزلت في شأن المنافقين، لأنهم كانوا يجمعون ويتفقون على التخلف عن الجهاد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إِذا نشبت حرب من الحروب الإِسلامية، متذرّعين لذلك بمختلف المعاذير والحجج، فإِذا عاد المجاهدون من القتال إِعتذروا وحلفوا لهم بأنّهم كانوا يودّوا المشاركة لولا بعض الأعذار، وأحبوا بالتالي أن يقبل منهم العذر ويحمدوا بما ليسوا عليه من الإِيمان وبما لم يفعلوه من أفعال المجاهدين الصادقين.
فنزلت هذه الآية ترد على هذا التوقع غير المبرر وغير الوجيه(1).
التّفسير
المعجبون بأنفسهم:
المرتكبون لقبائح الفعال على نوعين: طائفة تستحي من أفعالها فور انتباهها إِلى قبح ما فعلت، وهي لم تفعل ما فعلت من القبيح إِلاّ لطغيان غرائزها، وهيجان شهواتها، وهذه الطّائفة سهلة النّجاة جداً، لأنها تندم بعد كل قبيح ترتكبه، وتتعرض لوخز ضميرها وعتب وجدانها باستمرار.
بيد أنّ هناك طائفة اُخرى ليست فقط لا تشعر بالندم والحياء ممّا ارتكبت من الإِثم، بل هي على درجة من الغرور والإِعجاب بالنفس بحيث تفرح بما فعلت، بل تتبجح به وتتفاخر، بل وفوق ذلك تريد أنْ يمدحها الناس على ما لم تفعله أبداً من صالح الأعمال وحسن الفعال.
إِنّ الآية الحاضرة تقول عن هؤلاء: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفارة من العذاب) أي لا تحسبن أن هؤلاء يعذرون على موقفهم هذا وينجون من العذاب، إِنّما النجاة لمن يستحون - على الأقل - من أعمالهم القبيحة، ويندمون على أنّهم لم يفعلوا شيئاً من الأعمال الصالحة.
إنّ هؤلاء المعجبين بأنفسهم ليسوا فقط ضلّوا طريق النجاة وحرّموا من الخلاص، بل (ولهم عذاب أليم) ينتظرهم.
ويمكن أن نستفيد من هذه الآية أن ابتهاج الإِنسان بما وفق لفعله وإتيانه من صالح الإعمال ليس مذموماً (إِذا كان ذلك لا يتجاوز حد الإِعتدال، ولم يكن سبباً للغرور والعجب)، وهكذا الحال في رغبة الانسان في التشجيع والإِجلال على الأفعال الحسنة إِذا كان - كذلك - في حدود الإِعتدال، ولم يكن الإِتيان بتلك الأعمال الصالحة بدافع الحصول على ذلك، لأن كل ذلك من غريزة الإِنسان ومقتضى فطرته.
ولكن أولياء الله ومن هم في المستويات العليا من الإِيمان بعيدون حتى من مثل هذا الإِبتهاج المباح وحبّ التقدير الغير المذموم.
إِنّهم يرون أعمالهم دائماً دون المستوى المطلوب، ويشعرون أبداً بالتقصير تجاه ربّهم العظيم، وبالتفريط في جنبه سبحانه وتعالى.
على أنّه ينبغي أن لا نتصور أنّ الآية الحاضرة - مورد البحث - تختص بأهل النفاق في صدر الإِسلام أو من شاكلهم - في كل عصر وزمان - وفي جميع الظروف والمجتمعات المختلفة، ممن يفرحون ويبتهجون بأعمالهم القبيحة أو يحركون الآخرين ليحمدوهم على ما لم يفعلوه بالقلم أو اللسان.
إِنّ مثل هؤلاء مضافاً إِلى العذاب الأليم في الآخرة، سيصيبهم - في هذه الحياة - غضب الناس وسخطهم، وسيؤول أمرهم إِلى الإِنفصال عن الآخرين وإِلى غير ذلك من العواقب السيئة.
﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ﴾ فائزين بنجاة منه ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ بكفرهم وكذبهم نزلت في اليهود إذ سألهم (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن شيء في التوراة فأخبروه بخلاف ما فيها وأروه أنهم صدقوا وفرحوا بما فعلوا، أو في المنافقين إذ يفرحون بمنافقتهم المسلمين ويستحمدوا إليهم بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة.