حيث أن امتناع الشيطان من السجود لآدم (ع) لم يكن امتناعاً بسيطاً وعادياً ولم يكن معصية عادّية، بل كان تمرّداً مقروناً بالاعتراض والإِنكار للمقام الربوبي، لأنّه قال: أنا أفضل منه، وهذه الجملة تعني في حقيقة الأمر أن أمرك بالسجود لآدم أمرٌ مخالفٌ للحكمة والعدالة وموجب لتقديم "المرجوح" على "الراجح" لهذا فإِنّ مخالفته كانت تعني الكفر وإِنكار العلم والحكمة الإِلهيين، فوجب أن يخسر جميع مراتبه ودرجاته، وبالتالي كل ما له من مكانة عند الله، ولهذا أخرجه الله من ذلك المقام الكريم، وجرّده من تلك المنزلة السامقة التي كان يتمتع بها في صفوف الملائكة، فقال له: (فاهبط منها).
وقد ذَهَبَ جمعٌ من المفسّرين في ضمير "منها" إِلى إِرجاعه إِلى "السماء" أو "الجنّة" وذَهَبَ آخرون إِلى إِرجاعها إِلى "المنزلة الدرجة"، وهما لا يختلفان كثيراً من حيث النتيجة.
ثمّ إِنّه تعالى شرح له منشأ هذا السقوط والتنزّل بالعبارة التّالية: (فما يكونُ لَكَ أن تتكّبر فيها).
وأضاف للتأكيد قائلا: (فاخرج إِنّك من الصّاغرين) يعني إنّك بعملك وموقفك هذا لم تصبح كبيراً، بل على العكس من ذلك أصبتَ بالصغار والذلة.
إِنّ هذه الجملة توضح بجلاء أن شقاء الشيطان كله كان وليدَ تكبره، وإِن أنانيته هذه التي جعلته يريى نفسه أفضلَ ممّا هو، هي التي تسببت في أن لا يكتفي بعدم السجود لأدم، بل وينكر علم الله وحكمته، ويعترض على أمر الله، وينتقده، فخسر على أثر ذلك منزلته ومكانته، ولم يحصد من موقفه إِلاّ الذلة
والصغار بدل العظمة وهذه يعني أنّه لم يصل إِلى هدفه فحسب، بل بات على العكس من ذلك.
ونحن نقرأ في نهج البلاغة "الخطبة القاصعة" في كلام أميرالمؤمنين (ع) عند ذمّه للتكبر والعجب مايلي: "فاعتبروا بما فعل الله بإِبليس إِذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة... عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد إِبليس يسلَم على الله بمثل معصيته؟ كلا، ما كان الله سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمر أخرج به منها مَلَكاً، إِنّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض الواحد" (6).
وقد جاء أيضاً عن الإِمام علي بن الحسين (ع) أنّه قال: "إنّ للمعاصي شعباً، فأوّل ما عصي الله به الكبر، وهي معصية إِبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين، والحرص وهي معصية آدم وحواء... ثمّ الحسد وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله" (7).
وكذا نقل عن الإِمام الصادق (ع) أنه قال: "أُصول الكفر ثلاثة: الحرص والاستكبار والحسد، فأمّا الحرص فإِن آدم حين نهي عن الشجرة حمله الحرص على أن أكل منها، وأمّا الاستكبار فإِبليس حيث أُمِر بالسجود لآدم فأبى، وأمّا الحسد فإبنا آدم حيث قتل أحدهما صاحبه" (8).
﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا﴾ من الجنة أو السماء أو من المنزلة الرفيعة هبوطا معنويا ﴿فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا﴾ إذ لا يسكنها متكبر ﴿فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ الأذلاء فالتواضع رفعة والتكبر ضعة.