التّفسير
تنازع القادة والاتباع في جهنم!
في هذه الآية يواصل القرآن الكريم بيان المصير المشؤوم للمكذبين بآيات الله.
ففي الآيات السابقة صُور لنا وضعهم عند حلول الموت، وسؤال الملائكة القابضة للأرواح لهم، وهنا يرسم لنا ما يجري بين الجماعات المظلّة والغاوية، وبين من تعرضوا للإغواء في يوم القيامة.
ففي يوم القيامة يقول الله لهم: التحقوا بمن يشابهكم من الجن والإنس ممن سبقوكم، وذوقوا نفس مصيرهم النّار (قال ادخلوا في أُمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النّار).
إنّ هذا الأمر يمكن أن يكون بشكل أمر تكويني، يعني أن يجعلهم جميعاً في مكان واحد، أو يكون شبيهاً بأمر تشريعي يصدر إليهم يسمعونه بآذانهم، ويكونون مجبورين على إطاعته.
وعندما يدخل الجميع في النّار تبدأ مصادماتهم مع زملائهم وأشباههم في المسلك، وهي مصادمات عجيبة، فكلّما دخلت جماعة منهم في النّار لعنت الأُخرى واعتبرتها سبباً لشقائها ومسؤولة عن بلائها ومحنتها (كلّما دخلت أُمّة لعنت أختها). (1)
ولعلنا قلنا مراراً: إنّ ساحة القيامة وما يجري فيها انعكاس واسع وكبير لمجريات هذه الدنيا.
فلطالما رأينا في هذا العالم الجماعات والفرق والأحزاب المنحرفة تلعن إحداها الأُخرى، وتبدي تنفرها منها.
على العكس من أنبياء الله، والمؤمنين الصالحين، والمصلحين الخيّرين، فإنّ كل واحد منهم يؤيّد برنامج الآخر، ويعلن عن ارتباطه به واتحاده معه في الأهداف والغايات.
إلاّ أنّ الأمر لا ينتهي إلى هذا الحدّ، بل عندما يستقر الجميع - بمنتهى الذلّة والصغار - في الجحيم والعذاب الأليم، تبدأ كل واحدة منها برفع شكايتها إلى الله من الأُخرى.
فقي البداية يبدأ المخدوعون المغرّر بهم بعرض شكايتهم، وحيث أنّهم لا يجدون مناصاً ممّا هم فيه يقولون: ربّنا إنّ هؤلاء المغوين هم الذين أضلونا وخدعونا، فضاعف يا ربّ عذابهم، عذاباً لضلالهم وعذاباً لإضلالهم إيّاناً.
وهذا هو ما يتضمّنه قوله تعالى: (حتى إذا ادّاركوا فيها جميعاً قالت أُخراهم لأُوليهم ربّنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذاباً ضعفاً من النّار).
ولا شك أنّ هذا الطلب منطقي ومعقول جدّاً، بل إنّ المضلين سينالون ضعفاً من العذاب حتى من دون هذا الطلب، لأنّهم يتحملون مسؤولية انحراف من أضلوا أيضاً دون أن ينقص من عذابهم شيء، ولكن العجيب هو أن يقال لهم في معرض الإجابة على طلبهم: سيكون لكلتا الطائفتين ضعفان من العذاب وليس للمضلين فقط (قال لكل ضعفٌ ولكن لا تعلمون).
ومع الإمعان والدقة يتّضح لماذا ينال المخدوعون المضللون ضعفاً من العذاب أيضاً، لأنّه لا يستطيع أئمّة الظلم والجور ورؤوس الإنحراف والضلال أن ينفذوا لوحدهم برامجهم، بل هؤلاء الأتباع المعاندُون المتعصبون لأسيادهم هم الذين يمدون قادة الضلال ورؤوس الإنحراف بالقوّة والمدّد الذي يوصلهم إلى أهدافهم الشريرة، وعلى هذا الأتباع يجب أن ينالوا ضعفاً من العذاب أيضاً، عذاباً لضلالهم هم، وعذاباً لمساعدتهم للظالمين وإعانتهم قادة الإنحراف.
ولهذا نقرأ في حديث معروف عن الإمام الكاظم (عليه السلام) حول أحد شيعته يدعى صفوان، حيث نهاه عن التعاون مع هارون الرشيد قائلا: "يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً".
قلت: جعلت فداك أي شيءً؟
قال (عليه السلام) : إكراؤك جمالك من هذا الرجل (هارون الرشيد العباسي).
قلت: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو، ولكنّي أكريته لهذا الطريق (يعني طريق مكّة)... فقال لي (عليه السلام) : ياصفوان أيقع كراؤك عليهم؟
قلت: نعم جعلت فداك.
فقال لي: أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراؤك.
قلت: نعم.
قال (عليه السلام): "من أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النّار".(2)
﴿قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ﴾ مضت على الكفر ﴿مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ﴾ في النار ﴿لَّعَنَتْ أُخْتَهَا﴾ التي خلت باتباعها ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ﴾ تداركوا وتلاحقوا ﴿فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ﴾ دخولا وهم الأتباع ﴿لأُولاَهُمْ﴾ لأجلهم وهم القادة ﴿رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا﴾ مضاعفا ﴿مِّنَ النَّارِ﴾ إذ ضلوا وأضلوا ﴿قَالَ لِكُلٍّ﴾ من الفريقين ﴿ضِعْفٌ﴾ عذاب مضاعف لاجتماع الكل على الكفر ﴿وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ﴾ ما لكل فريق وقرىء بالياء.