وفي الآية اللاحقة أشار تعالى إلى واحدة من أهم النعم التي أعطاها الله سبحانه لأهل الجنّة، والتي تكون سبباً لطمأنينتهم النفسية وسكنتهم الروحية، إذ قال (ونزعنا ما في صدورهم من غلّ).
و (الغِل) في الأصل بمعنى نفوذ الشيء خفية وسرّاً، ولهذا يقال للحسد والحقد والعداوة، الذي يتسلّل إلى النفس الإنسانية بصورة خفية (الغل)، وإنّما يطلق "الغلول" على الرشوة بهذه المناسبة لأنّها تؤخذ خفيّة وسرّاً لإرتكاب خيانة. (2)
وفي الحقيقة إنّ من أكبر عوامل الشقاء التي يعاني منها الناس في هذه الحياة، ومصدر الكثير من الصراعات الإجتماعية الواسعة التي تؤدي - مضافاً إلى الخسائر الفادحة في المال والنفس - الى زعزعة الاستقرار الروحي، هو الحسد والحقد.
فنحن نعرف الكثير ممن لا ينقصهم شيء في الحياة، ولكنّهم يعانون من الحسد والحقد للآخرين، وهو عذابهم الوحيد الذي يعكر صفو حياتهم ويضيق عليهم رحبها، ويترك معيشة هؤلاء المرفهين ساحة تجوال عساكر الحزن والغم، وتدفعهم إلى سلوكيات مرهقة وغير منطقية.
إنّ أهل الجنّة معافون من هذه الشقاوات والمحن بالكلية، لأنّهم لا يتصفون بهذه الصفات القبيحة، فلا حسد ولا حقد في قلوبهم، ولهذا لا يتعرضون لعواقبها النكرة.
إنّهم يعيشون معاً في منتهى التواد والتحابب والصفاء والسكينة.
إنّهم راضون عن وضعهم الذي هم فيه، حتى الذين يعيشون في مراتب أدنى من الجنّة لا يحسدون مَن فوقهم أبداً، ولهذا تنحل أعظم مشكلة تعترض طريق التعايش السلمي.
ولقد نقل بعض المفسّرين حديثاً في المقام عن السدّي قال: "إنّ أهل الجنّة إذا سيقوا إلى الجنّة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غلّ، فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأُخرى فجرت عليهم نضرة النعيم، فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبداً" (3).
إن هذا الحديث وإن لم ينته سنده إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة (عليهم السلام) وإنّما رواه أحد المفسّرين وهو "السّدي" ولكنّه لا يبعد أن يكون قد روي عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأصل، لأنّ هذه الأُمور ليست من المسائل والقضايا التي يستطيع السدّي وأمثاله الإطلاع عليها.
وعلى كل فهي إشارة لطيفة إلى الحقيقة التالية، وهي أنّ أهل الجنّة قد تطهروا باطناً وظاهراً، جسماً وروحاً، فهم يتحلون بالجمال الجسماني، والجمال الروحاني معاً، ولهذا فهم لا يعانون، - مطلقاً - من الحسد والحقد.
فما أسعد من يبني لنفسه في هذه الدنيا جنّة أُخرى، بتطهير صدره من الحقد والحسد ليتخلّص من افرازاتهما المؤلمة.
وبعد ذكر هذه النعمة الروحانية، يُشير القرآن الكريم إلى نعمهم المادية الجسدية، فيقول: (تجري من تحتها الأنهار).
ثمّ بعكس رضى أهل الجنّة الكامل الشامل الذي يعبرون عنه بالحمد والشكر لله وحده على ما هداهم إليه من النعم (وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله).
وهنا يأتيهم النداء بأن ما ورثتموه من النعم إنّما هو بسبب أعمالكم (ونودوا أن تلكم الجنّة أورثتموها بما كنتم تعملون).
ومرّة أُخرى نصل إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ النجاة رهن بالعمل الصالح، وليسن بالأماني والظنون الخاوية.
و"الإرث" في الأصل بمعنى انتقال مال أو ثروة من شخص إلى آخر من دون أن يكون بينهما عقد (أي الإنتقال عبر مسير طبيعي تلقائي، لا عن طريق البيع والشراء) ولهذا يطلق الإرث على انتقال أموال الميت إلى خَلَفه.
لماذا عبّر بالإرث؟
وهنا ينقدح سؤال وهو: كيف يقال لأهل الجنّة: هذه النعم أُورثتموها لقاء أعمالكم؟
والجواب أوضحه حديث روي بطرق الشيعة والسنّة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: "ما من أحد إلاّ وله منزل في الجنّة، ومنزل في النّار، فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النّار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنّة، فذلك قوله أورثتموها بما كنتم تعملون". (4)
فهذا الحديث يشير إلى أنّ أبواب السعادة والشقاء مفتوحة أمام جميع الناس قاطبة، وإنّه لم يخلق أحد يوم خلق وهو من أهل الجنّة، أو من أهل النّار، بل يمتلك الجميع قابلية الوصول إلى كلا هذين المنزلين، وإنّما إرادتهم هي التي تحدد وتقرّر مصيرهم.
ومن البديهي أنّه عندما يستقر المؤمنون بسبب أعمالهم الصالحة في الجنّة، ويستقر الكفار والأشرار في النّار ينتقل مكان ومنزل كل واحد منهما الى الآخر بصورة طبيعية.
وعلى كل حال، فإن هذه الآية وهذا الحديث هما من البراهين والدلائل الواضحة على نفي الجبر، وثبوت الإِختيار وحرية الإرادة في الإِنسان.
﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ﴾ أخرجنا من قلوبهم الغش والحقد حتى لا يكون بينهم إلا التوادد وعبر بالماضي لتحققه ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ﴾ تحت أبنيتهم ﴿الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ المنزل أو لما هذا ثوابه ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ﴾ حذف جواب لو لا لدلالة ما قبله عليه ﴿لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ فاهتدينا بهم ﴿وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ﴾ إذا رأوها أو دخلوها وأن مفسرة أو مخففة وكذا الأربع الآتية ﴿أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.