ولهذا قال تعالى في الآية اللاحقة: عندما لم تغيّر تلك الجماعات سلوكها ومسيرها تحت ضعظ المشكلات والحوادث، بل بقوا في الضلال، رفعنا عنهم المشكلات وجعلنا مكانها النعم والرخاء فازدهرت حياتهم وكثر عددهم وزادت أموالهم (ثمّ بدّلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا).
و"عفوا" من مادة "عفو" التي تكون أحياناً بمعنى الكثرة، وأحياناً بمعنى الترك والإعراض، وتارة تكون بمعنى محو آثار الشيء.
ولكن لا يبعد أن يكون أصل جميع تلك الأُمور هو الترك، غاية ما هنالك قد يترك شيء لحاله حتى يتجذر، ويتوالد ويتناسل ويزداد، وربّما يترك حتى يهلك وينهدم تدريجاً وشيئاً فشيئاً.
ولهذا جاء بمعنى الزيادة والهلاك معاً.
وقد احتمل المفسّرون في الآية المبحوثة ثلاثة احتمالات أيضاً:
الأوّل: أنّنا أعطيناهم إمكانيات حتى يزدادوا فيستعيدوا كل ما فقدوه - في فترة الشدّة والضراء - من الأفراد والاموال.
الآخر: أنّنا أعطيناهم نعماً كثيرة جداً بحيث غرتهم، فنسوا الله، وتركوا شكره.
الثّالث: أنّنا أعطيناهم نعماً كي يستطيعوا بها أن يزيلوا أثار فترة النكبة ويمحوها.
إنّ هذه التفاسير وإن كانت متفاوتة من حيث المفهوم، ولكنّها من حيث النتيجة متقاربة فيما بينها.
ثمّ أضاف: أنّهم عند زوال المشكلات بدل أن يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وهي"النعمة" و"النقمة" بيدالله، وأنّهم راجعون إلى الله، يتذرعون - لخداع أنفسهم - بهذا المنطق، وهو إذا تعرضنا للمصائب والبلايا، فإنّ ذلك ليس بجديد، فقد مس آباءنا الضراء والسراء، وكانت لهم حالات رخاء وحالات بلاء، فالحياة لها صعود ونزول، والصعاب أمواج غير ثابتة وسريعة الزوال (وقالوا قد مسّ آباءَنا الضّراء والسّراء).
فهي إذن قضية طبيعية، ومسألة إعتيادية.
فيقول القرآن الكريم في الختام: إنّ الأمر عندما بلغ إلى هذا الحد، ولم يستفيدوا من عوامل التربية - أبداً - بل ازدادوا غروراً وعنجهيّة وتكبراً أهلكناهم فجأة ومن غير سابق انذار، لأنّ ذلك أشد إيلاماً ونكالا لهم، وعبرة لغيرهم: (فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون).
﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا﴾ أعطيناهم ﴿مَكَانَ السَّيِّئَةِ﴾ البلاء ﴿الْحَسَنَةَ﴾ النقمة ﴿حَتَّى عَفَواْ﴾ كثروا عددا أو عدة وأصله الترك أي تركوا حتى كثروا ومنه إعفاء اللحى ﴿وَّقَالُواْ﴾ كفرا للنعمة ﴿قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء﴾ كما مسنا فهذه عادة الدهر بنا وبهم فلم يدعوا دينهم فنحن مثلهم ﴿فَأَخَذْنَاهُم﴾ بالعذاب ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ بنزوله.