لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير التّقدم والعمران في ظل الإيمان والتقوى: في الآيات الماضية وقع البحث فيما جرى لأقوام مثل قوم هود وصالح وشعيب ونوح ولوط على نحو الإجمال، وإن كانت تلك الآيات كافية لبيان النتائج المشحونة بالعبر في هذه القصص، ولكن الآيات الحاضرة تبيّن النتائج بصورة أكثر وضوحاً فتقول: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)، أي لو أنّهم سلكوا سبيل الإيمان والتقوى، بدل الطغيان والتمرد وتكذيب آيات الله والظلم والفساد، لم يتخلصوا من غضب الله وعقوبته فسحب، بل لفتحت عليهم أبواب السماء والأرض. ولكن للأسف - تركوا الصراط المستقيم الذي هو طريق السعادة والرفاه والأمن، وكذبوا الأنبياء، وتجاهلوا برامجهم الإصلاحية، فعاقبناهم بسبب أعمالهم (ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون). بحوث وهنا مواضيع ينبغي الوقوف عندها: 1 - بركات الأرض والسماء لقد وقع حديث بين المفسّرين في ما هو المراد من "بركات" الأرض والسماء؟ فقال البعض: إنّها المطر، والنباتات التي تنبت من الأرض. وفسّرها البعض بإجابة الدعاء، وحل مشاكل الحياة. ولكن هناك احتمال آخر - أيضاً - هو أنّ المراد من البركات السماوية هي البركات المعنوية، والمراد من البركات الأرضية هي البركات المادية. ولكن مع ملاحظة الآيات السابقة يكون التّفسير الأوّل أنسب من الجميع، لأنّه في الآيات السابقة التي شرحت العقوبات الشديدة التي حلّت بالمجرمين والطغاة، فأشارت تارة إلى نزول السيول من السماء وطغيان الينابيع والعيون من الأرض (مثل طوفان نوح) وأُخرى إلى الصواعق والصيحات السماوية، وثالثة إلى الزلازل الأرضية الرهيبة. وفي الآية المطروحة هنا طرحت هذه الحقيقة على بساط البحث، وهي: أنّ العقوبات ما هي إلاّ لأفعالهم هم، وإلاّ فلو كان الإنسان طاهراً مؤمناً، فإنّه بدل أن يحل العذاب السماوي أو الأرضي بساحته، تتواتر عليه البركات الإلهية من السماء والأرض... أجل، إنّ الإنسان هو الذي يبدل البركات بالبلايا. 2 - معنى "البركات" "البركات" جمع "بركة" وهذه الكلمة - كما أسلفنا - تعني في الأصل "الثبات" والإستقرار، ويطلق على كل نعمة وموهبة تبقى ولا تزول، في مقابل الموجودات العارية عن البركة، والسريعة الفناء والزوال، والخالية عن الأثر. والملفت للنظر أنّ فائدة التقوى والإيمان لا تقتصر على نزول البركات الإِلهية، بل هما سبب في أن يَصرف الإنسان مالديه في المصارف اللازمة الصَحيحة. ففي المثل نلاحظ اليوم أنّ قسماً كبيراً من الطاقات الإنسانية، والمصادر الإقتصادية تصرف في سبيل سباق التسلح وصنع الأسلحة المدمّرة. وبذلك تنعدم البركة فيها، ولا تثمر سوى الدمار والخراب، ولكن المجتمعات البشرية اذا تحلّت بالتقوى والإيمان، فإنّ هذه المواهب الإِلهية سيكون لها وضع آخر، ومن الطبيعي أن تبقى آثارها وتخلد، وتكون مصداقاً لكلمة البركات. 3 - ماذا يعني "الأخذ"؟ في الآية أعلاه استعملت كلمة "أخذ" في مفهوم المجازاة والعقوبة، وهذا في الحقيقة لأجل أنّ الشخص الذي يراد عقوبته يؤخذ أوّلا في العادة، ثمّ يُوَثق بوسائل خاصّة حتى لا تبقى له قدرة على الفرار، ثمّ يعاقب. 4 - المفهوم الواسع للآية إنّ الآية الحاضرة وإن كانت ناظرة إلى وضع الأقوام الغابرة، ولكنّه من المسلّم أن مفهومها مفهوم واسع وعام ودائم، ولا تنحصر في شعب معين أو قوم خاص، فإنّها سنة إلهية أن يبتلى غير المؤمنين، والمتورطين في المعاصي والذنوب بأنواع مختلفة ومتنوعة من البلايا في هذه الدنيا، فربّما ينزل عليهم البلاء السماوي والأرضي، وربّما تشتعل نيران الحروب العالمية أو المحلية فتبتلغ أموالهم وتبيدها وربّما يفارقهم الأمن والإستقرار، فتسحق المخاوف والهواجس بأظلافها أبدانهم ونفوسهم، وحسب تعبير القرآن يكون كل ذلك بما كسبت أيديهم ورد فعل لأعمالهم. إن فيض الله ليس محدوداً ولا ممنوعاً، كما أنّ عقوباته لا تختص بقوم أو شعب. لماذا تعيش الأُمم الكافرة في الرخاء؟ من كل ما قلناه يتّضح الجواب على سؤال يدور كثيراً بين جماعة من الناس، وهو: إذا كان الإيمان والتقوى يبعثان على نزول أنواع البركات الإِلهية، ويكون العكس موجباً لسلب البركات، فلماذا نشاهد الشعوب غيرالمؤمنة ترفل في الرخاء والرفاه، في حين يعيش جماعة من أهل الإيمان بعسر ومشقّة؟ إنّ الإجابة على هذا السؤال تتّضح بملاحظة نقطتين: 1 - إنّ تصوّر أنّ الشعوب غيرالمؤمنة الفاقدة للتقوى ترفل في النعمة والرخاء وتغرق في السعادة هو تصور خاطيء ينبع من اشتباه أكبر، وهو إعتبار الثروة دليلا على السعادة. إنّ الناس يتصورون - عادة - أنّ كل شعب امتلك صناعة أكثر تقدماً، وثروة أكبر، كان أسعد من غيره، في حين لو تسنى لنا أن ننفذ إلى أعماق هذه المجتمعات ونلاحظ الآلام الممضة التي تحطم روح هذه الشعوب وجسمها عن كثب، فسوف نُسلّم أن أكثر تلك الشعوب هي من أشقى سكان الأرض. هذا بغض النظر عن أنّ هذا التقدم النسبيّ إنّما هو نتيجة استخدامهم لأُصول ومباديء مثل السعي والإجتهاد، والنظم والشعور بالمسؤولية التي هي جزء من تعاليم الأنبياء، ومن صلب توجيهاتهم. في هذه الأيّام - التي نكتب فيها هذا القسم من التّفسير - نشرت الجرائد والصحف أنّه حدث في نيويورك - التي هي واحدة من أكبر نقاط العالم المادي ثروة وأكثرها تقدماً - حادث جدّ عجيب على أثر انقطاع فجائي للتيار الكهربائي، وذلك الحادث هو أنّ كثيراً من الناس هاجموا المحلات والمخازن وسرقوا كل ما فيها بحيث أن ثلاثة آلاف من المغيرين على المحلات اعتقلوا بواسطة البوليس. إنّ من المسلّم أن عدد المغيرين - في الواقع - أكثر بأضعاف من هذا العدد، وهذا العدد هم الذين لم يمكنهم الفرار والهرب والنجاة من قبضة البوليس، كما أنّه من المسلّم أن المغيرين لم يكونوا سراقاً محترفين هيّأوا أنفسهم من قبل لمثل هذه الإغارة العمومية، لأنّ الحادثة المذكورة كانت حادثة فجائية. من هذا نستنتج أنّه مع حالة إنقطاع عابر للتيار الكهربائي يتحول عشرات الالآف من سكان مدينة ثرية ومتقدمة - كما يشاؤون تسميتها - إلى لصوص وسراق، إن هذا لا يدل على الإنحطاط الخلقي لدى شعب من الشعوب فحسب، بل يدل على فقدان الأمن الإجتماعي الشديد أيضاً. والخبر الآخر الذي نقلته الصحف، ويكمل - في الحقيقة - هذا الخبر، وهو أن أحد الشخصيات المعروفة كان يقيم في تلك الأيّام في نيويورك، في أحد الفنادق الشهيرة ذات العشرات من الطوابق، قال: إنّ انقطاع التيار الكهربائي تسبب في أن يمسي التجول في معابر وصالات ذلك الفندق عملا بالغ الخطورة، بحيث أنّ مسؤولي الفندق ما كانوا يسمحون لأحد بأن يغادر مكانه إلى غرفته منعاً من أن يتعرض للمغيرين داخل صالات الفندق، ولهذا نظموا المسافرين والنزلاء في جماعات مكونة من عشرة أو أكثر، وتولى موظفون مسلحون إيصالهم إلى غرفهم تحت حراسة مشددة. ثمّ يضيف ذلك الشخص المذكور: أنّه ما لم يعانِ من الجوع الشديد لم يجرؤ على الخروج من غرفته. ولكن انقطاع التيار الكهربائى هذا يقع في البلاد المتأخرة الشرقية كثيراً، ولكن لا تحدث مثل هذه المشاكل، وهذا يفيد أن سكان البلدان المتقدمة رغم كونهم يمتلكون ثروة عظيمة، وصنائع عظيمة، لا يملكون أدنى قدر من الأمن في بيئتهم. هذا مضافاً إلى أنّ شهود عيان يقولون: إنّ القتل والإغتيال في تلك البيئات كشرب الماء من حيث السهولة واليسر. ونحن نعلم أنّنا أعطينا الدنيا كلها لأحد وكان يعيش في مثل هذه الظروف، كان من أشقى أهل الأرض... على أنّ مشكلة الأمن هي واحدة من مشكلاتهم، وإلاّ فهناك مفاسد إجتماعية أُخرى كل واحد منها بدوره حالة مؤلمةً جداً... ومع الإلتفات إلى هذه الحقائق فلا معنى لتوهّم أنّ الثروة سعادة. 2 - أمّا ما يقال عن سبب تخلّف المجتمعات المتحلية بالإيمان والتقوى، فإذا كان المقصود من الإيمان والتقوى هو مجرّد ادعاء الإسلام وإدعاء أتباع مبادىء الأنبياء وتعاليمهم، فالاعتراض وجيه. ولكننا لا نعتبر حقيقة الإيمان والتقوى إلاّ نفوذهما في جميع أعمال الإنسان، وجميع شؤون الحياة، وهذا أمر لا يتحقق بمجرّد الإدعاء والزعم. إنّ من المؤسف جدّاً أن نجد التعاليم الإسلامية ومبادىء الأنبياء متروكة أو شبه متروكة في كثير من المجتمعات الإسلامية، فملامح هذه المجتمعات ليست ملامح مجتمعات المسلمين الصادقين الحقيقيين. لقد دعا الإسلام إلى الطهارة والإستقامة والأمانة والإجتهاد والجد، فأين تلك الأمانة والإجتهاد؟ إنّ الإسلام يدعو إلى العلم والمعرفة واليقظة والوعي، فأين ذلك العلم والوعي واليقظة؟! وإن الإسلام يدعو إلى الإتحاد والتضامن ووحدة الصفوف والتفاني، فهل سادت هذه الأصول والمبادىء في المجتمعات الإسلامية الحاضرة بصورة كاملة، ومع ذلك بقيت متخلّفة؟! لهذا يجب أن نعترف بأنّ الإسلام شيء، والمسلمون اليوم شيء آخر. ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى﴾ التي أهلكناها أو مطلقا ﴿آمَنُواْ﴾ بالله ورسله ﴿وَاتَّقَواْ﴾ المعاصي ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ﴾ أي من كل جانب أو المطر والنبات ﴿وَلَكِن كَذَّبُواْ﴾ الرسل ﴿فَأَخَذْنَاهُم﴾ بالقحط والشدة ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ من الكفر والمعاصي.