وفي الآية اللاحقة يعود القرآن الكريم إلى ذكر وتأكيد هذه الحقيقة بشكل آخر فيقول: أفأمن المجرمون من المكر الإِلهي في حين لا يأمن مكره إلاّ الخاسرون (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون).
و"المكر" - كما قلنا في ذيل الآية 94 من سورة آل عمران - يعني في اللغة العربية كل حيلة ووسيلة لصرف الشخص عن الهدف الذي يمضي إليه، سواء كان حقاً أو باطلا، وقد أخذ في مفهوم هذه اللغة نوع من التدرج والنفوذ التدريجي.
وعلى هذا فالمراد من المكر الإِلهي، هو أنّ الله تعالى يصرفهم بخططه القوية التي لا تقهر عن حياة الرفاه واللذة دون اختيارهم ويقطعها عليهم.
وهذه إشارة إلى العقوبات الإِلهية الفجائية والمهلكة.
جواب على سؤال:
إنّ الجملة التي وردت في ختام الآية الحاضرة تقول: لا يأمن أحد - إلاّ الخاسرون - من المكر الإلهي والعقوبة الإلهية، وهنا يطرح هذا السؤال، وهو: هل تشمل هذه العبارة الأنبياء والأئمّة العظام والصالحين؟
لقد تصوّر البعض أنّهم خارجون من هذا الحكم، وأنّ الآية تختص بالمجرمين.
ولكن الظاهر أن هذا الحكم عام يشمل الجميع، لأنّه حتى الأنبياء والأئمّة كانوا مراقبين لأعمالهم دائماً كي لا تصدر منهم أدنى زلة أو عثرة، لأنّنا نعلم أن مقام العصمة ليس مفهومه أن المعصية مستحيلة عليهم، بل يعني أنّهم مصونون عن الإثمّ والمعصية بفعل إرادتهم وإيمانهم وحسن إختيارهم، إلى جانب العنايات الربانية.
إنّهم كانوا يخافون من ترك الأولى ويتجنبونه، ويخشون أن لا يتمكنوا من القيام بمسؤولياتهم الثقيلة.
ولهذا نقرأ في الآية (15) من سورة الأنعام حول الرّسول الأعظم (قل إنّي أخاف إن عصيتُ ربي عذاب يوم عظيم).
ولقد رويت في تفسير الآية الحاضرة - أيضاً - أحاديث تؤيد ما قلناه: "صليت خلف أبي عبدالله (الصادق) (عليه السلام)، فسمعته يقول: "اللّهم لا تؤمني مكرك.
ثمّ جهر فقال: (فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون) ".
ونقرأ في نهج البلاغة أيضاً: "لا تأمنن على خير هذه الأُمّة عذاب الله، لقول الله سبحانه: (فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون) " (1).
إنّ عدم الأمن من المكر الإِلهي - في الحقيقة - يعني الخوف من المسؤوليات والخوف من التقصير فيها، ومن المعلوم أن الخوف يجب أن يكون في قلوب المؤمنين دائماً إلى جانب الأمل بالرحمة الإلهية بشكل متساو، وأن التوازن بين هذين هو منشأ كلّ حركة ونشاط، وهو الذي يعبّر عنه في الرّوايات بالخوف والرجاء.
وقد جاء التصريح في هذه الرّوايات بوجوب أن يكون المؤمنون دائماً بين الخوف والرجاء، ولكن المجرمين الخاسرين نسوا العقوبات الإِلهية بحيث صاروا يرون أنفسهم في منتهى الأمن المكر الإِلهي.
﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ﴾ استدراجه إياهم بالنعم وأخذهم بغتة ﴿فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ بالكفر وترك النظر.