ومن دون تأخير أخرج موسى معجزتيه العظميتين التي كانت إحداهما مظهر "الخوف" والأُخرى مظهر "الأمل" وكانتا تكملان مقام إنذاره ومقام تبشيره، وألقى في البداية عصاه: (فالقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) (2).
والتعبير ب- "المبين" إشارة إلى أنّ تلك العصا التي تبدلت إلى ثعبان حقّاً، ولم يكن سحراً وشعبذة وما شاكل ذلك، على العكس من فعل السحرة لأنّه يقول في شأنهم: إنّهم مارسوا الشعبذة والسحر، وعملوا ما تصوره الناس حيات تتحرك، وما هي بحيات حقيقة وواقعاً.
إنّ ذكر هذه النقطة أمرٌ ضروري، وهي أنّنا نقرأ في الآية (10) من سورة النمل، والآية (31) من سورة القصص، أن العصا تحركت كالجانّ، و "الجانّ" هي الحيات الصغيرة السريعة السير، وإنّ هذا التعبير لا ينسجم مع عبارة "ثعبان" التي تعني الحية العظيمة ظاهراً.
ولكن مع الإلتفات إلى أنّ تينك الآيتين ترتبطان ببداية بعثة موسى، والآية المبحوثة هنا ترتبط بحين مواجهته لفرعون، تنحل المشكلة، وكأن الله أراد أن يوقف موسى على هذه المعجزة العظيمة تدريجاً فهي تظهر في البداية أصغر، وفي الموقف اللاحق تظهر أعظم.
هل يمكن قلب العصا إلى حية عظيمة؟!
على كل حال لا شك في أنّ تبديل "العصا" إلى حية عظيمة معجزة، ولا يمكن تفسيرها بالتحليلات المادية المتعارفة، بل هي من وجهة نظر الإلهي الموحد - الذي يعتبر جميع قوانين المادة محكومة للمشيئة الربانية - ليس فيها ما يدعو للعجب فلا عجب أن تتبدل قطعة من الخشب إلى حيوان بقوة ما فوق الطبيعة.
ويجب أن لا ننسى أن جميع الحيوانات في عالم الطبيعة توجد من التراب، والأخشاب والنباتات هي الأُخرى من التراب، غاية ما هنالك أن تبديل التراب إلى حية عظيمة يحتاج عادة إلى ملايين السنين، ولكن في ضوء الإِعجاز تقصر هذه المدّة إلى درجة تتحقق كل تلك التحولات والتكاملات في لحظة واحدة وبسرعة، فتتخذ القطعة من الخشب - التي تستطيع وفق الموازين الطبيعية أن تغير بهذه الصورة بعد مضي ملايين السنين - تتخذ مثل هذه الصورة في عدّة لحظات.
والذين يحاولون أن يجدوا لمعاجز الأنبياء تفسيرات طبيعية ومادية - وينفوا طابعها الإعجازي، ويظهروها في صورة سلسلة من المسائل العادية مهما كانت هذه التفاسير مخالفة لصريح الكتب السماوية.
إنّ هؤلاء يجب أن يوضحوا موقفهم: هل يؤمنون بالله وقدرته ويعتبرونه حاكماً على قوانين الطبيعة، أم لا؟
فإذا كانوا لا يؤمنون به وبقدرته، لم يكن كلام الأنبياء ومعجزاتهم إلاّ لغواً لديهم.
وإذا كانوا مؤمنين بذلك، فما الداعي لنحت، مثل هذه التّفسيرات والتبريرات المقرونة بالتكلف والمخالفة لصريح الآيات القرآنية.
(وإن لم نر أحداً من المفسّرين - على ما بينهم من اختلاف السليقة - عمد إلى هذا التّفسير المادي، ولكن ما قلناه قاعدة كلية).
﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ حية عظيمة بينة لا يشك فيها.