لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير المطالبة برؤية الله: في هذه الآيات والآيات اللاحقة يشير سبحانه إلى مشهد مثير آخر من مشاهد حياة بني إسرائيل، وذلك عندما طلب جماعة من بني إسرائيل من موسى (عليه السلام) - بإلحاح وإصرار - أن يَروا الله سبحانه، وأنّهم لن يؤمنوا به إذا لم يشاهدوه، فاختار موسى سبعين رجلا من قومه واصطحبهم معه إلى ميقات ربّه، وهناك رفع طلبهم إلى الله سبحانه، فسمع جواباً أوضح لبني إسرائيل كل شيء في هذا الصعيد. وقد جاء قسم من هذه القصّة في سورة البقرة الآية (55) و (56)، وقسم آخر منه في سورة النساء الآية (153)، وقسم ثالث في الآيات المبحوثة هنا في الآية (155) من هذه السورة. ففي الآيات الحاضرة يقول أوّلا: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك). ولكن سرعان ما سمع الجواب من جانب المقام الرّبوبي: كلا، لن تراني أبداً (قال لن تراني ولكن اُنطر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلى ربّه للجبل جعله دكاً) (1). فلمّا رأى موسى هذا المشهد الرهيب تملكه الرعب إلى درجة أنّه سقط على الأرض مغمىً عليه (وخرّ موسى صعقاً). وعندما أفاق قال: ربّاه سبحانك، أنبتُ إليك، وأنا أوّل من آمن بك (فلمّا أفاق قال سبحانك تبتُ إليك وأنا أوّل المؤمنين). بحوث وفي هذه الآية نقاط ينبغي التوقف عندها والإلتفات إليها: 1 - لماذا طلب موسى رؤية الله؟ إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه هنا هو: كيف طلب موسى (عليه السلام) - و هو النّبي العظيم ومن أُولي العزم - رؤية الله وهو يعلم جيداً أن الله ليس بجسم، وليس له مكان، ولا هو قابل للمشاهدة والرؤية، والحال أن مثل هذا الطلب لا يليق حتى بالأفراد العاديّين من الناس؟ صحيح أنّ المفسّرين ذكروا أجوبة مختلفة على هذا السؤال، ولكن أوضح الأجوبة هو أن موسى (عليه السلام) طرح مطلب قومه، لأنّ جماعة من جَهَلة بني إسرائيل أصرّوا على أن يروا الله حتى يؤمنوا (والآية 153 من سورة النساء خير شاهد على هذا الأمر) وقد أمر موسى (عليه السلام) من جانب الله أن يطرح مطلب قومه هذا على الله سبحانه حتى يسمع الجميع الجواب الكافي، وقد صُرّح بهذا في رواية مرويّة عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في كتاب عيون أخبار الرضا أيضاً (2). ومن القرائن الواضحة التي تؤيد هذا التّفسير ما نقرأه في الآية (155) من نفس هذه السورة، من أنّ موسى (عليه السلام) قال بعدما حدث ما حدث: (أتهلِكُنا بما فَعَل السفهاءُ منّا). فيتّضح من هذه الجملة أنّ موسى (عليه السلام) لم يطلب لنفسه مثل هذا الطلب اطلاقاً، بل لعلّ الرجال السبعين الذين صعدوا معه إلى الميقات هم أيضاً لم يطلبوا مثل هذا الطلب غير المعقول وغيرالمنطقي، إنّهم كانوا مجرّد علماء، ومندويين من جانب بني إسرائيل خرجوا مع موسى (عليه السلام) لينقلوا فيما بعد مشاهداتهم لجماعات الجهلة والغافلين الذين طلبوا رؤية الله سبحانه وتعالى ومشاهدته. 2 - هل يمكن رؤية الله أساساً؟ نقرأ في الآية الحاضرة أن الله سبحانه قال لموسى (عليه السلام) : (انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) فهل مفهوم هذا الكلام هو أن الله قابل للرؤية أساساً؟ الجواب هو أن هذا التعبير هو كناية عن استحالة مثل هذا الموضوع، مثل جملة (حتى يلج الجمل في سمّ الخياط) وحيث أنّه كان من المعلوم أنّ الجبل يستحيل أن يستقر في مكانه عند تجلّي الله له، لهذا ذكر هذا التعبير. 3 - ما هو المراد من تجلّي الله؟ لقد وقع كلام كثير بين المفسّرين في هذا الصعيد، ولكن ما يبدو للنظر من مجموع الآيات أنّ الله أظهر إشعاعة من أحد مخلوقاته على الجبل (وتجلّي آثاره بمنزلة تجليه نفسه) ولكن ماذا كان ذلك المخلوق؟ هل كان إحدى الآيات الإلهية العظمية التي بقيت مجهولة لنا إلى الآن، أو أنّه نموذج من قوة الذرَّة العظيمة، أو الأمواج الغامضة العظيمة التأثير والدفع، أو الصاعقة العظيمة الموحشة التي ضربت الجبل وأوجدت برقاً خاطفاً للأبصار وصوتاً مهيباً رهيباً وقوّة عظيمة جداً، بحيث حطّمت الجبل ودكّته دكّاً (3) ؟! وكأنّ الله تعالى أراد أن يُرِىَ - بهذا العمل - شيئين لموسى (عليه السلام) وبني إسرائيل: الأوّل: أنّهم غير قادرين على رؤية ظاهرة جد صغيرة من الظواهر الكونية العظيمة، ومع ذلك كيف يطلبون رؤية الله الخالق. الثاني: كما أن هذه الآية الإلهية العظيمة مع أنّها مخلوق من المخلوقات لا أكثر، ليست قابله للرؤية بذاتها، بل المرئي هو آثارها، أي الرجة العظيمة، والمسموع هو صوتها المهيب. أمّا أصل هذه الأشياء أي تلك الأمواج الغامصة أو القوة العظيمة فلا هي ترى بالعَين، ولا هي قابلة للإدراك بواسطة الحواس الأُخرى، ومع ذلك هل يستطيع أحد أن يشك في وجود مثل هذه الآية، ويقول: حيث أنّنا لا نرى ذاتها، بل ندرك فقط آثارها فلا يمكن أن نؤمن بها. فإذا يصح الحكم هذا حول مخلوق من المخلوقات، فكيف يصح أن يقال عن الله تعالى: بما أنّه غير قابل للرؤية، إذن لا يمكننا الإيمان به، مع أنّه ملأت آثاره كل مكان؟ وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية وهو أنّ موسى (عليه السلام) طلب لنفسه هذا المطلب حقيقة، ولكن لم يكن مقصوده مشاهدته بالعين التي تستلزم جسمانيته تعالى، وتنافي نبوة موسى (عليه السلام)، بل المقصود هو نوع من الإدراك الباطني والمشاهدة الباطنية، نوع من الشهود الكامل الروحيّ والفكري، لأنّه كثيراً ما تستعمل الرؤية في هذا المعنى مثلما نقول: "أنا أرى في نفسي قدرةً على القيام بهذا العمل" في حين أنّ القدرة ليست شيئاً قابلا للرؤية، بل المقصود هو أنّني أجد هذه الحالة في نفسي بوضوح. كان موسى (عليه السلام) يريد أن يصل إلى هذه المرحلة من الشهود والمعرفة، في حين أن الوصول إلى هذه المرحلة لم يكن ممكناً في الدنيا، وإن كان ممكناً في عالم الآخرة الذي هو عالم الشهود. ولكن الله تعالى أجاب موسى (عليه السلام) قائلا: إنّ مثل هذه الرؤية غير ممكنة لك، ولإثبات هذا المطلب تجلّى للجبل، فتحطَّم الجبل وتلاشى، وبالتالي تاب موسى من هذا الطلب. (4) ولكن هذا التّفسير مخالف لظاهر الآية المبحوثة هنا، ويتطلب ارتكاب التجوّز من جهات عديدة (5) هذا مضافاً إلى أنّه ينافي بعض الرّوايات الواردة في تفسير الآية أيضاً، فالحق هو التّفسير الأول. 4 - مم تاب موسى (عليه السلام) ؟ إنّ آخر سؤال يطرح نفسه هنا هو: أن موسى (عليه السلام) بعد أن أفاق قال: (تبتُ إليك) في حين أنّه لم يرتكب إثماً أو معصية، لأن هذا الطلب كان من جانب بني إسرائيل، وكان طرحه بتكليف من الله، فهو أدى واجبه إذن، ثمّ إذا كان هذا الطلب لنفسه وكان مراده الشهود الباطني لم يُحسب هذا العمل إثماً؟ ولكن يمكن الجواب على هذا السؤال من جانبين: الأوّل: أن موسى طلب مثل هذا الطلب بالنيابة عن بني إسرائيل، ومع ذلك طلب من الله أن يتوب عليه، وأظهر الإِيمان. الآخر: أنّ موسى (عليه السلام) وإن كان مكلَّفاً بأن يطرح طلب بني إسرائيل، ولكنّه عندما تجلى ربّه للجبل واتّضحت حقيقة الأمر، انتهت مدّة هذا التكليف، وفي هذا الوقت لا بدّ من العودة إلى الحالة الأُولى يعني الرجوع إلى ما قبل التكليف، وإظهار إيمانه حتى لا تبقى شبهة لأحد، وقد بيّن ذلك بجملة، (إنّي تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين). 5 - الله غير قابل للرؤية مطلقاً إنّ هذه الآية من الآيات التي تشهد بقوة وجلاء أنّ الله غير قابل للرؤية والمشاهدة مطلقاً، لأنّ كلمة "لن" حسب ما هو مشهور بين اللغويين للنفي الأبدي، وعلى هذا الأساس يكون مفهوم جملة (لن تراني) إنّك لا تراني لا في هذا العالم ولا في العالم الآخر. ولو أنّ أحداً شكّك - افتراضاً - في أن يكون "لن" للنفي التأبيدي يدل إطلاق الآية، وكون نفي الرؤية ذكر من دون قيد أو شرط على أن الله غير قابل للرؤية في مطلق الزمان وجميع الظروف. إنّ الأدلة العقلية هي الأُخرى تهدينا إلى هذه الحقيقة، لأنّ الرؤية تختص بالأجسام. وعلى هذا الأساس، إذا جاء في الأحاديث والأخبار الإسلامية أو الآيات القرآنية عبارة "لقاء الله" فإن المقصود هو المشاهدة بعين القلب والعقل، لأنّ القرينة العقلية والنقلية أفضل شاهد على هذا الموضوع وقد كان لنا أبحاث أُخرى في ذيل الآية (102) من سورة الأنعام في هذا الصعيد. ﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ بلا واسطة سمعه من كل جهة ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ روي لما كرروا سؤال الرؤية وأوحى الله إليه يا موسى سألني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم ﴿قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ علق على المحال ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ ظهر له أمره واقتداره أو نوره أو عظمته ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾ مدكوكا أي مدقوقا ﴿وَخَرَّ موسَى صَعِقًا﴾ مغشيا عليه لهول ما رأى ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ﴾ تنزيها لك عما لا يليق بك من الرؤية وغيرها ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ من طلب الرؤية أو السؤال بلا إذن ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بأنك لا ترى.