التّفسير
في الآيات الماضية دار الحديث حول أسلاف اليهود، ولكن في الآية الحاضرة دار الكلام حول أبنائهم وأخلافهم.
وفي البداية يقول تعالى: (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى) إنّهم ورثوا التوراة عن أسلافهم، وكان عليهم أن ينتفعوا بها ويهتدوا، ولكنّهم رغم ذلك فتنوا بمتاع هذه الدنيا وحطامها الرخيص التافه، واستبدلوا الحق والهدى بمنافعهم الماديّة.
و"خَلْف" على وزن "حَرْف" يأتي غالباً في الأولاد غيرالصالحين - كما ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين، في حين أنّ "الخَلَف" على وزن "شَرَف" يأتي بمعنى الولد الصالح (1).
ثمّ يضيف قائلا: وعندما وقعوا بين مفترق طريقين: بين ضغط الوجدان من جهة، والرغبات والمنافع المادية من جهة أُخرى عمدوا إلى الأماني والآمال الكاذبة وقالوا: لنأخذ المنافع الدنيوية فعلا سواءً من حلال أو حرام، والله سيرحمنا ويغفر لنا (ويقولون سيُغفَر لنا).
إنّ هذه الجملة تكشف عن أنّهم كانوا بعد القيام بمثل هذا العمل يتخذون حالة من الندم العابر والتوبة الظاهرية، ولكن هذه الندامة - كما يقول القرآن الكريم - لم تكن لها أية جذور في أعماق نفوسهم، ولهذا يقول تعالى: (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه).
و"عرض" على وزن "غرض" يعني الشيء الذي لا ثبات له ولا دوام، ومن هذا المنطق يطلق على متاع العالم المادي اسم العرض، لكونه زائلا غير ثابت في الغالب، فهو يقصد الإِنسان يوماً ويقبل عليه بوفرة بحيث يضيع الإِنسان حسابه ولا يعود قادراً على عده وإحصائه ويبتعد عنه وجمعه وحصره، يوماً آخر بالكلية بحيث لا يملك منه إلاّ الحسرة والتذكر المؤلم، هذا مضافاً إلى أن جميع نعم هذه الدنيا هي أساساً غير دائمة، وغير ثابته (2).
وعلى كل حال، فإنّ هذه الجملة إشارة إلى عمليات الإِرتشاء التي كان يقوم بها بعض اليهود لتحريف الآيات السماوية، ونسيان أحكام الله لمضادتها لمصالحهم ومنافعهم المادية.
ولهذا قال تعالى في عقيب ذلك: (ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلاّ الحق) أي أنّهم أُخذ عليهم الميثاق - بواسطة كتابهم السماوي التوراة - أن لا يفتروا على الله كذباً، ولا يحرفوا كلماته، ولا يقولوا إلاّ الحق.
ثمّ يقول: لو كان هؤلاء الذين يرتكبون هذه المخالفات جاهلون بالآيات الإِلهية، لكان من الممكن أن ينحتوا لأنفسهم أعذاراً، ولكن المشكلة هي أنّهم رأوا التوراة مراراً وفَهموا محتواها ومع ذلك ضيعوا أحكامها، ونبذوا أمرها وراء ظهورهم (ودرسوا فيه).
و"الدرس" في اللغة يعني تكرار شيء، وحيث أن الإِنسان عند المطالعة، وتلقي العلم من الأستاذ والمعلم يكرّر المواضيع، لهذا أطلق عليه لفظ "الدرس" وإذا ما رأينا أنّهم يستعملون لفظة "درس والاندراس" على إنمحاء أثر الشيء فإنّما هو لهذا السبب وبهذه العناية، ولأنّ الأمطار والرياح والحوادث الأُخرى تتوالى على الأبنية القديمة وتبليها.
وفي ختام الآية يقول: إنّ هؤلاء يخطئون في تقديرهم للأُمور، وإنّ هذه الأعمال لن تجديهم نفعاً (والدّار الآخرة خير للذين يتفون).
﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ﴾ التوراة عن أسلافهم يتلونها ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى﴾ حطام هذا الشيء الدني أي الدنيا من الحرام كالرشاء وغيرها ﴿وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾ حال من المستكن في لنا أي يرجون المغفرة مصرين على ذنبهم عائدين إليه ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ﴾ تقرير ﴿عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ﴾ الإضافة بمعنى في ﴿أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ﴾ متعلق بالميثاق أي بأن أو عطف بيان ﴿وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ﴾ تركوه حتى صار دارسا ﴿وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ﴾ من عرض الدنيا ﴿لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الحرام ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ ذلك بالتاء والياء.