التّفسير
العهدِ الأوّل وعالم الذّر:
الآيات المذكورة أعلاه، تشير إلى "التوحيد الفطري" ووجود الإِيمان في أعماق روح الإِنسان... ولذلك فإنّ هذه الآيات تُكمل الأبحاث الواردة في الآيات المتقدمة من هذه السورة في شأن"التوحيد الإِستدلالي"!
وبالرغم من كثرة الأقوال والكلام بين المفسّرين في شأن عالم الذّر، إلاّ أنّنا نحاول أن نبيّن التّفسير الإجمالي لهذه الآيات الكريمة، ثمّ نختار الأهم من أبحاث المفسّرين، ونبيّن وجهة نظرنا بصورة استدلالية موجزة!
يقول الله سبحانه مخاطباً نبيّه في هذه الآية (وإذْ أخذ ربُّك من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا!...).
"الذريّة" كما يقول أهل اللغة وعلماؤها، معناها في الأصل الأبناء الصغار اليافعون، إلاّ أنّها تطلق في الغالب على عموم الأبناء، وقد تستعمل هذه الكلمة في معنى المفرد، كما قد تستعمل في معنى الجمع، إلاّ أنّها في الأصل تحمل معنى الجمع!
والجذر اللغوي لهذه الكلمة مُختَلفٌ فيه، إذ احتملوا له أوجهاً متعددة.
فقال بعضهم: إنّ جذر هذه الكلمة مأخوذ من "ذَرَأَ" على زنة "زَرَعَ" ومعناه الخلق، فعلى هذا الوجه يكون معنى الذرية مساوياً "للمخلوق".
وقال بعضهم: بل الجذر مأخوذ من "ذَرَّ" على وزن "شَرَّ" ويعني الموجودات الصغيرة جدّاً كذرّات الغبار مثلا والنمل الصغير، ومن هنا فإنّ أبناء الإِنسان تبدأ حياتهم من نطفة صغيرة جداً.
والإِحتمال الثّالث أنّه مأخوذ من مادة ذَرْو ومعناه النثر والتفريق والتنقية ومنه ذَرْوُ الحنطة (1) وإنما سمي أبناء الإِنسان بالذرية لأنّهم يتفرقون في أنحاء الأرض بعد التكاثر!
ثمّ يشير الله سبحانه إلى الهدف النهائي من هذا السؤال والجواب، وأخذ العهد من ذرية آدم في مسألة التوحيد، فيقول: (أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين).
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ﴾ بدل اشتمال ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ وقرىء ذرياتهم أي أخرج من أصلابهم على نحو توالدهم نسلا بعد نسل، وروي أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر فعرفهم نفسه وأراهم صنعه ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا﴾ أي نصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بربوبيته حتى صاروا بمنزلة من شهدوا وأقروا ﴿أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ كراهة أن تقولوا ﴿إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ لم نتنبه له بحجة.