ولذلك تذكر الآية بعدها جزاء من يفر من ميدان الحرب مع الإِشارة لمن يستثنون منهم فتقول: (ومن يُولّهم يومئذ دُبره إلاّ متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله).
وكما نرى فقد استثنت الآية صورتين من مسألة الفرار، ظاهرهما أنّهما من صورة الفرار، غير أنّهما في الحقيقة والواقع صورتان للقتال والجهاد:
الصورة الأُولى:
عُبّر عنها ب- ("متحرّفاً لقتال) و"متحرف" من مادة (التحرّف) أي الإِبتعاد جانباً من الوسط نحو الأطراف والجوانب، والمقصود بهذه الجملة هو أنّ المقاتلين يقومون بتكتيك قتالي إزاء الأعداء، فيفرون من أمامهم نحو الأطراف ليلحقهم الأعداء: ثمّ يغافلوهم في توجيه ضربة قوية إليهم واستخدام فن الهجوم والإِنسحاب المتتابع وكما يقول العرب: (الحرب كرّ وفرّ).
الصورة الثّانية:
أن يرى المقاتل نفسه وحيداً في ساحة القتال، فينسحب للإلتحاق بأخوأنه المقاتلين وليهجم معهم من جديد على الأعداء.
وعلى كل حال، فلا ينبغي تفسير هذا التحريم بشكل جاف يتنافى وأساليب الحروب وخدعها، والتي هي أساس كثير من الإِنتصارات.
وتُختتم الآية محل البحث بالقول: إنّ جزاء من يفرّ مضافاً إِلى استحقاقه لغضب الله فانّ مصيره إِلى النّار: (ومأواه جهنم وبئس المصير).
والفعل "باء" مشتق من "البواء" ومعناه الرجوع وإِتّخاذ المنزل، جذره في الأصل يعني تصفية محل ما وتسطيحه، وحيث إنّ الإِنسان إذا نزل في محل عدله وسطحه، فقد جاءت هذه الكلمة هنا بهذا المعنى.
وفي الآية إشارة إِلى أنّ غضب الله مستمر ودائم عليهم، فكأنّهم قد اتّخذوا منزلا عند غضب الله.
وكلمة "المأوى" في الأصل معناها "الملجأ" وما نقرؤه في الآية، محل البحث (ومأواه جهنم) فهو إشارة إِلى أنّ الفارين يطلبون ملجأ ومأوى من فرارهم لينقذوا أنفسهم من الهلكة، إِلاّ أنّ ما يحصل هو خلاف ما يطلبون، إذ ستكون جهنم مأواهم، وليس ذلك في العالم الآخر فحسب، بل هو في هذا العالم إذ سيحترقون في جهنم الذلة والإِنكسار والضياع.
ولذا فقد جاء في "عيون الأخبار" عن الإِمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في جواب أحد أصحابه حين سأله عن فلسفة تحريم الفرار من الجهاد فقال: "وحرم الله الفرار من الزحف لما فيه من الوهن في الدين، والإِستخفاف بالرسل والأئمّة العادلة عليهم السلام، وترك نصرتهم على الأعداء، والعقوبة على إنكار ما دعوا إليه من الإِقرار بالرّبوبية وإظهار العدل وترك الجور وإماتة الفساد، لما في ذلك من جرءة العدوّ على المسلمين، وما يكون من السبي والقتل وإبطال دين الله عزّ وجلّ وغيره من الفساد". (1)
ومن ضمن الإِمتيازات الكثيرة التي كانت عند الإِمام علي (عليه السلام)، وربّما يشير إِلى نفسه أحياناً ليكون نبراساً للآخرين قوله "إِنّي لم أفر من الزحف قطّ، ولم يبارزني أحد إلاّ سقيت الأرض من دمه" (2).
والعجيب أنّ بعض المفسّرين من أهل السنة يصرّ على أنّ حكم الآية السابقة يختص بمعركة بدر، وأنّ التهديد والوعيد من الفرار من الجهاد يتعلق بالمقاتلين في بدر فحسب، مع أنّه لا يوجد دليل في الآية على هذا التخصيص، بل لها مفهوم عام يشمل كل المقاتلين والمجاهدين.
وفي الرّوايات والآيات كثير من القرائن الذي يؤيد هذا المعنى "ولهذا الحكم شروط طبعاً سنتناولها نعالجها في الآيات المقبلة من هذه السورة إن شاء الله".
﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ﴾ أي يوم لقائه ﴿دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ﴾ منعطفا يريهم الفر وهو يريد الكر مكيدة ﴿أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ﴾ منحازا إلى جماعة من المسلمين يستعين بها ﴿فَقَدْ بَاء﴾ رجع ﴿بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ المرجع هي.