ولئلا يصاب المسلمون بالغرور في إنتصارهم، ولئلا يعتمدوا على قواهم الجسمية فحسب، وليذكروا الله في قلوبهم دائماً، وليتعلقوا به طلباً لألطافه، فإنّ الآية التّالية تقول: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى).
لقد ورد في الرّوايات والتفاسير أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي يوم بدر: أعطني حفنة من تراب الأرض وحصاها، فناوله علي ذلك، فرمى النّبي جهة المشركين بذلك التراب وقال: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى). (3)
قالوا: كان لهذا الفعل أثر معجز إذ وقع ذلك التراب على وجوه المشركين وعيونهم فملأهم رعباً.
لاشك أنّ الظاهر يشير إِلى أنّ النّبي وأصحابه هم الذين أدّوا هذا الدور في معركة بدر، لكن القرآن يقول: إنكم لم تفعلوا ذلك أوّلا، لأنّ القدرات الروحية والجسمية والإِيمانية التي هي أصل تلك النتائج كلها من عطاء الله وقد تحركتم بقوة الله وفي سبيل الله.
وثانياً قد حصلت في ساحة بدر معاجز كثيرة أشرنا إليها سابقاً، وقد بعثت في نفوس المجاهدين القوّة، وإنهارت بها قوى المشركين ومعنوياتهم، وكان كل ذلك بألطاف الله سبحانه.
وفي الحقيقة فإنّ الآية محل البحث تشير إِلى لطيفة في مذهب "لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين" لأنّها في الوقت الذي تخبر عن قتل المسلمين للكافرين، وتقول إنّ النّبي رمى التراب بوجوه المشركين تسلب منهم كل هذه الأُمور (فتأمل بدقّة).
ولا شك في عدم وجود تناقض في مثل هذه العبارة، بل الهدف هو القول بأنّ هذا الفعل كان منكم ومن الله أيضاً، لأنّه كان بإرادتكم والله منحكم القوة والمدد.
وبناء على ذلك فإنّ الذين اعتقدوا بمذهب الجبر مستدلين بهذه الآية فإنّ الردّ عليهم موجود في الآية ذاتها.
والذين قالوا بوحدة الوجود مستدلين بهذه الآية فإنّ الردّ عليهم موجود في الآية بأُسلوب لطيف، لأنّه إِذا كان المراد بأنّ الخالق والمخلوق واحد، فلا ينبغي أن ينسب الفعل إِليهم تارةً وينفي عنهم تارةً أُخرى، لأنّ النسبة ونفيها دليل على التعدد، وإذا تجردت الأفكار عن الحكم المسبق والتعصب المقيت لرأينا أن الآية لا ترتبط بأىَّ من المذاهب الضّالة، بل هي تشير إِلى المذهب الوسط "أمر بين أمرين" فحسب.
وهذه الإِشارة لأجل هدف تربوي، وهو إِزالة الغرور وآثاره، إذ يقع ذلك عادة في الأفراد بعد الإِنتصارات.
وتشير الآية في ختامها إِلى لطيفة مهمّة أُخرى، وهي أنّ ساحة بدر كانت ساحة امتحان وإختبار، إذ تقول: (وليبلي المؤمنون منه بلاءً حسناً).
والبلاء معناه الإختبار في الأصل، غاية ما في الأمر تارة يكون بالنعم فيسمى بلاءً حسناً، وتارةً بالمصائب والعقاب فيسمّى بلاءً سيئاً، كما تشير إِلى ذلك الآية (168) من سورة الأعراف في شأن بني إسرائيل (وبلوناهم بالحسنات والسيئات).
لقد شاء الله أن يذيق المؤمنين في أوّل مواجهة مسلحة بينهم وبين أعدائهم طعم النصر، وأن يجعلهم متفائلين للمستقبل، وهذه الموهبة الإِلهية كانت إختباراً لهم جميعاً، وإلاّ أنّه لا ينبغي لهم أن يغتروا بهذا الإِنتصار أبداً، فتكون النتيجة سلبية، وذلك بأن يروا عدوهم حقيراً وينسوا بناء ذواتهم ويغفلوا عن الإِعتماد على الله.
لهذا فإنّ الآية تختتم بهذه الجملة (إنّ الله سميع عليم).
أي أنّ الله سمعَ صوت استغاثة النّبي والمؤمنين، واطلع على صدق نياتهم، فأنزل ألطافه عليهم جميعاً ونصرهم على عدوّهم، وأنّ الله يعامل عباده بهده المعاملة حتى في المستقبل، فيطلع على ميزان صدق نياتهم وإخلاصهم واستقامتهم، فالمؤمنون المخلصون ينتصرون أخيراً، والمراؤن المدعون ينهزمون ويفشلون.
﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾ ببدر بقوتكم ﴿وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ﴾ بنصره لكم وإرعابهم ﴿وَمَا رَمَيْتَ﴾ يا محمد ﴿إِذْ رَمَيْتَ﴾ بها نحوهم ﴿وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾ إذ لا قدرة للبشر أن يبلغ كفا من الحصى أعين الجيش الكثير ﴿وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً﴾ أي فعل ذلك ليقهر المشركين ولينعم على المؤمنين نعمة بالنصر والغنيمة ﴿إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ﴾ لدعائهم ﴿عَلِيمٌ﴾ بأحوالهم.