لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير الإِيمان ووضوح الرّؤية: تناولت الآيات السابقة أوامر حياتية تتضمّن السعادة المادية والمعنوية للإِنسان، لكن العمل بها غير ممكن إِلاّ في ظلال التقوى، لذلك جاءت هذه الآية المباركة لتؤكّد أهمية التقوى وآثارها في مصير الإِنسان، وقد بيّنت الآية أربعة ثمار ونتائج للتقوى. فقالت إبتداءاً: (يا أيّها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً...). وكلمة "فرقان" صيغة مبالغة من مادة (فرق) وهي هنا بمعنى الشيء الذي يفصل بين الحق والباطل تماماً. إنّ هذه الجملة الموجزة والكبيرة في معناها قد بيّنت إحدى أهم المسائل المؤثره في مصير الإِنسان، وهي أنّ درب الإِنسان نحو النصر محفوف دائماً بالمصاعب والحفر فإذا لم يبصرها جيداً ويحسنُ معرفتها واتقاءها فسيسقط فيها لا محالة، فأهم مسألة في هذا الطريق هي معرفة الحق والباطل، معرفة الحسن والقبيح، معرفة الصديق والعدو، معرفة الفوائد والأضرار، معرفة عوامل السعادة والضياع، فإذا استطاع الإِنسان معرفة هذه الحقائق جيداً فسيسهل عليه الوصول إِلى الهدف. إنّ المشكلة التي تعترض الانسان غالباً هي خطأه في تشخيص الباطل واختياره على الحق، وإنتخاب العدوّ بدل الصديق، وطريق الضلال بدل طريق الهداية، وهنا يحتاج الإِنسان إِلى بصر وبصيرة قويّة، ووضوح رؤية. إنّ هذه الآية المباركة تقول: إنّ هذه البصيرة ثمرة لشجرة التقوى. أمّا كيف تعطي هذه التقوى البصيرة للإِنسان؟ فقد يكون الأمر مبهماً لدى البعض، لكن قليلا من الدقّة والتأمل كافية لتوضيح العلاقة الوثيقة بين هذين الإِثنين، ولإِيضاح ذلك نقول: أوّلا: إنّ قوّة عقل الإِنسان تستطيع إدراك الحقائق بقدر كاف، ولكن ستائر من الحرص والطمع والشهوة وحبّ النفس والحسد، والحبّ المفرط للمال والأزواج والأولاد والجاه والمنصب كل ذلك يغدُوّ كالدخان الأسود أمام بصيرة العقل، أو كالغبار الغليظ الذي يملأ الآفاق، وهنا لا يمكن للإِنسان معرفة الحق والباطل في أجواء مظلمة، أمّا إذا غسل تلك الغشاوة بماء التقوى وانقشع ذلك الدخان الأسود، عند ذاك تسهل عليه رؤية نور الحق. ثانياً: أنّنا نعلم أنّ كل كمال في أي مكان إنّما هو قبس من كمال الحق، وكلّما اقترب الإِنسان من الله فإنّ نور الكمال المطلق سينعكس في وجوده أكثر، وعلى ذلك فإنّ أي علم ومعرفة فهو نبع من علمه ومعرفته تعالى، وكلّما تقدّم الإِنسان في ظلال التقوى وترك المعاصي من الله، ذابت قطرة وجوده في بحر وجود العظيم أكثر، وسيحصل على مقدار أكثر من العلم والمعرفة. وبعبارة أُخرى فإنّ قلب الإِنسان كالمرآة، ووجود الله كالشمس الساطعة على الوجود، فإذا تلوثت مرآة قلبه من الأهواء حتى اسودت، فسوف لا تعكس النور، فإذا تمّ جلاؤها بالتقوى وزال الدرن عنها، فإنّ تلك الشمس الوضاءة الساطعة ستنعكس فيها وتنير كل مكان. ولذلك فإنّنا نرى على مدى التأريخ بعض النساء والرجال المتّقين يملكون وضوحاً من الرؤية لا يمكن بلوغه بوسائل العلم والمعرفة أبداً، فهم يرون أسباب الكثير من الحوادث التي تعصف بالمجتمع غير المرئية، ويرون وجود أعداء الحق وإن حجبتها آلاف الستائر الخادعة. وهذا الأثر العجيب للتقوى في معرفة الواقع، جاء ذكره في الكثير من الرّوايات والآيات الأُخرى، ففي سورة البقرة تقول الآية 282: (اتقوا الله ويعلمكم الله)، وجاء في الحديث المعروف: "المؤمن ينظر بنور الله". وفي نهج البلاغة في قصار الكلم : "أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع". ثالثاً: بالتحليل العقلي يمكن فهم العلاقة الوثيقة بين التقوى وإدراك الحقائق أيضاً، لأنّ المجتمعات التي تسير في دروب الفساد والرذيلة وأجهزة الإِعلام فيها تطبل لذلك الميسر، والصحافة والراديو والتلفزيون كلها تدعو للتلوث والإِنحراف وخدمة الفساد، فمن البديهي أن يصعب على الناس تمييز الحق من الباطل، الجيد من الرديء، ونتيجة الأمر، فإنّ إنعدام التقوى يكون سبباً لفقدان القدرة على هذه المعرفة أو سوء المعرفة. ومثال آخر: فإنّ عائلة غير متقيّة، وصغارها يشبون في محيط ملوث بالفساد والرّذيلة، فمن العسير على هؤلاء في المستقبل تمييز الجيد من الرديء، وإهدار القوى والطاقات في الذنوب يتسبب بقاء الناس على مستوى دان من البصيرة والمعرفة وانحطاط في التفكير حتى وإن كانوا متقدمين في الصناعة والحياة المادية. وبناءً على ما تقدم فإنّنا نرى أنّ ادنى انحراف عن التقوى يسبب نوعاً من العمى وسوء المعرفة، لذلك نرى في العالم الصناعي اليوم مجتمعات متقدمة جدّاً في العلم والصناعة، ولكنّها في حياتها اليومية مصابة بأمراض ومشاكل شديدة تبعث على الإِستغراب والتعجب، وهنا تتجلى عظمة ما قاله القرآن الكريم. ونظراً إِلى أنّ التقوى لا تنحصر بالتقوى في العمل، بل تشمل التقوى في الفكر والعقل، فإنّ هذه الحقيقة تتّضح بصورة أجلى. فالتقوى في الفكر تعني مواجهة التسيّب وعدم الإِنضباط في التفكير، بمعنى أن نبحث في دراساتنا وتحقيقاتنا عن أصح الأدلة وأوثق البراهين، وأن لا نلتزم بعقيدة دون التحقيق الكافي والدقة اللازمة. والذين يراعون التقوى ويلتزمونها في تفكيرهم سيبلغون النتائج الصحيحة أسرع بكثير ممن لا يلتزم بها، كما أنّ الخلط والخطأ يكثر عند من لايتقي الله في استدلالاته وأسلوب تفكيره. وهناك أمر آخر يجب الإِنتباه إليه، لأنّ الكثير من مفاهيمنا الإِسلامية قد تعرضت للتشويه بين المسلمين، وهو أنّ الكثير من الناس يتصور أنّ الإِنسان المتقي هو الذي يكثر من غسل بدنه ولباسه ويعتبر كل فرد وكل شيء نجساً ومشكوكاً فيه، وينزوي جانباً متجنباً الخوض في الأُمور الإِجتماعية، ويسكت أمام كل واقعة، فهذه النظرات المغلوطة عن التقوى والمتقين في الحقيقة إحدى عوامل انحطاط المجتمعات الإِسلامية، لأنّ هذه التقوى لا تنتج معرفة ولا وضوح رؤية ولا تكون فرقاناً بين الحق والباطل. وعلى كل حال، وبعد أن إتّضح أوّل ثواب للمتقين نعود لتفسير بقية الآية وسائر الثمار الإربعة لها. يقول القرآن الكريم: إنّه إضافة إِلى معرفة الحق من الباطل فإنّ من آثار التقوى أن يغطي على ذنوبكم ويمحوا آثارها من وجودكم (ويكفر عنكم سيئاتكم). مضافاً إِلى ذلك، فإنّه تعالى سيشملكم بمغفرته (ويغفرلكم). وثمار كثيرة أُخرى تنتظركم لا يعلمها إلاّ الله: (والله ذو الفضل العظيم). فهذه الآثار الأربعة هي ثمرات في شجرة التقوى، ووجود روابط طبيعية بين التقوى وقسم من هذه الآثار لا يمنع من نسبة كل ذلك إلى الله تبارك وتعالى، لأنّنا وكما قلنا مراراً في هذا التّفسير فإنّ أي موجود ذي آثار إنّما تحصل بمشيئة الله وقدرته، فيمكن نسبة تلك الآثار إِلى الله عزّ وجلّ، وإِلى ذلك الموجود أيضاً. وأمّا الفرق بين (تكفير السيئات) و (الغفران). فقد قال بعض المفسّرين بأنّ الأُولى إشارة إِلى الحجب من الدنيا، والثّانية إِلى النجاة من الجزاء الأخروي، ويردُ احتمال آخر هنا وهو أن (تكفير السيئات) تشير للآثار النفسية والإِجتماعية للذنوب والتي تزول بفعل التقوى، ولكن (الغفران) إشارة إِلى مسألة العفو الإِلهي والخلاص من الجزاء... . ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ﴾ بطاعته وترك معاصيه ﴿يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾ ما تفرقون به بين الحق والباطل ﴿وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ بالعفو عن ذنوبكم ﴿وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ يبتدىء بالنعم قبل استحقاقها.