ولمّا كانت الآية السابقة قد دعت الأعداء للعودة إِلى الحق، وإن هذه الدعوة قد تولد هذه الفكرة لدى المسلمين وهي أنّه قد انتهت فترة الجهاد ولابدّ بعد الآن من اللين والتساهل، ترفعُ هذه الشبهة الآية التالية وتقول: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدّين كلّه لله).
وكلمة "الفتنة" - كما بيناها في تفسير الآية (193) من سورة البقرة - ذات معنى واسع تشمل كل أنواع الضغوط، فتارة يستعملها القرآن بمعنى عبادة الأصنام والشرك الذي يشمل كل أنواع التحجر والجمود واضطهاد أفراد المجتمع.
وتطلق الفتنه أيضاً علىالضغوط التي يفرضها الأعداء، للوقوف بوجه اتساع دعوة الإِسلام، ولإِسكات صوت أهل الحق، بل حتى إرجاع المؤمنين نحو الكفر.
وفي الآية محل البحث فسر الفتنة بعضهم بمعنى الشرك، وفسّرها آخرون بأنّها تعني سعي الأعداء لسلب الحريات الفكرية والإِجتماعية من المسلمين.
ولكن الحقّ أنّ مفهومها واسع يشمل الشرك، بقرينة قوله: (ويكون الدين لله) وسائر ضغوط الأعداء على المسلمين.
الهدف من الجهاد وبُشرى كريمة:
تشير الآية آنفة الذكر إِلى قسمين من أهداف الجهاد المقدسة وهما:
1 - القضاء على عبادة الأصنام وتطهير الارض من معابدها ونحو ذلك وكما ذكرنا في بحثنا عن أهداف الجهاد فإِنّ الحريّة الدينية تتعلق بمن يتّبع أحد الأديان السماوية فلا يجوز إكراه هؤلاء من أجل تغيير عقيدتهم، ولكن عبادة الأصنام ليست ديناً ولا فكراً، بل هي خرافة وجهل وإنحراف، وعلى الحكومة الإِسلامية إزالتها وتطهير البلاد منها عن طريق الإِعلام و التبليغ الإِسلامي - أوّلا - وإذا لم يؤدّ ذلك إِلى نتيجة فيجب اللجوء إِلى القوة لتدمير معابد الأوثان.
2 - نيل الحرية في نشر الإِسلام والتبليغ له، وفي هذا القسم أجاز الإِسلام استخدام القوّة في مواجهة من يمنع المسلمين من نشر عقيدتهم لفتح الطريق بوجه الحوار المنطقي السليم.
وقد ورد في تفاسير أهل السنة كتفسير "روح البيان" للآلوسي، وتفاسير شيعية أُخرى، عن الإِمام الصادق (عليه السلام) "لم يجيء تأويل هذه الآية، ولو قام قائمنا بعدُ، سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، وليبلغن دين محمّد ما بلغ
الليل حتى لا يكون شرك على ظهر الأرض كما قال تعالى".(2)
ولقد أنكر صاحب تفسير المنار - لتعصبه - هذا الحديث الوارد في شأن مسألة قيام المهدي (عليه السلام)، وذلك لحكمه المُسبق المخطيء في هذه القضية، والعجيب أن له ميلا خاصاً في تفسيره إِلى الفكر الوهابي، مع أنّ الوهابيين بالرغم من تعصّهم يصرحون بأنّ ظهور الإِمام المهدي (عليه السلام) من الأُمور المسلّم بها، ويعتبرون الرّوايات فيه من المتواترات.
وسنورد الأدلة والمصادر في هذا الصدد في ذيل الآية (33) من سورة التوبة، كما سنشير إِلى النقطة الأساسية في خطأ هذا المفسّر والرد عليها، ولقد فصلنا الأمر في كتابنا "المصلح العالمي الكبير".
وإذا كانت بعض الرّوايات المتعلقة بظهور المهدي غير صحيحة وفيها بعض الخرافات، فلا ينبغي أن يؤدّي ذلك إِلى الإِعراض عن بقية الرّوايات الصحيحة والمتواترة!
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ لا يوجد فيهم الشرك ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه﴾ بالاجتماع على الدين الحق ﴿فَإِنِ انتَهَوْاْ﴾ عن الكفر ﴿فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فلا يضيع أجرهم.