لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
أمّا إذا استغلت تلك المواهب في سبيل الطغيان والإِنحراف والعنصرية، وكفران النعمة والغرور والفساد، فإنّ الله سيسلبهم تلك النعم أو يُبدلها إِلى بلاء ومصيبة، بناءً على ذلك فإنّ التغيير يكون من قِبلنا دائماً، وإلاّ فإنّ النعماء الإِلهية لا تزول!... وتعقيباً على هذا الهدف يعود القرآن ليشير إِلى حال الطغاة - كفرعون وأقوام آخرين - فيقول: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربّهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكلّ كانوا ظالمين) ظلموا أنفسهم وظلموا سواهم أيضاً. الجواب على سؤال: قد يرد هنا سؤالٌ وهو: لِمَ تكررت عبارة (كدأب آل فرعون) في الآي بفاصلة قليلة مرّتين، ومع إختلاف يسير في التعبير؟! وللإِجابة على هذا التساؤل ينبغي الإِلتفات إِلى لطيفة، وهي أنّه بالرغم من أنّ التكرار أو التأكيد على المسائل الحساسة من أُصول البلاغة، ويلاحظ في أقوال البلغاء والفصحاء، لكنّ في الآيات - آنفة الذكر - فرقاً مهماً يخرج تلك العبارة عن صورة التكرار. وهو أنّ الآية الأُولى تشير إِلى الجزاء الإِلهي في مقابل إنكار آيات الحق والتكذيب بها، ثمّ تمثل حال هؤلاء بقوم فرعون والأقوام السابقين. إلاّ أنّ الآية الثّانية تشير إِلى تبدل النعم في الدنيا وذهاب المواهب الرّبانية، مثل الإِنتصارات والأمن والقدرات وما يُفتخر به. ثمّ مثّلت الآية بحال فرعون والأقوام السابقين. ففي الحقيقة أنّ جانباً من الكلام كان عن سلب النعم وما ينتج عن ذلك من الجزاء، ويقع الكلام في جانب آخر منه على تبدل النعم وتحوّلها. ملاحظتان 1 - أسباب حياة الشعوب وموتها يعرضُ التأريخ لنا شعوباً وأُممّا كثيرة، فطائفة اجتازت سلّم الرقي بسرعة، ووصلت طائفة ثانية إِلى أسفل مراحل الإِنحطاط، وطائفة ثالثة عاشت يوماً في تشتت وضياع وتناحر وتفرقة، ثمّ قويت في يوم آخر، وطائفة رابعة على العكس منها إذ سقطت من أعلى مراتب الفخر إِلى قعر وديان الذلة والضياع. والكثير من الناس يمرّون مرور الكرام على حوادث التأريخ المختلفة دون أي تفكر فيها، والكثير منهم بدلا من البحث في العلل أو الأسباب الواقعية لحياة الشعوب وموتها يرجعون ذلك إِلى أسباب وهمية وخيالية. ويرجعوها آخرون إِلى حركة الأفلاك ودورانها إيجاباً وسلباً. وأخيراً فإنّ بعضهم لجأ إِلى مسألة القضاء والقدر بمفهومها المحّرف، أو إِلى مسائل حسنِ الطالع والحظ وعدمهما، وما شابه ذلك، فيرجعون كل الحوادث الحسنة أو المرّة إِلى هذه الأُمور. وكل ذلك بسبب الخوف من الأسباب الحقيقة لتلك الأُمور. والقرآن الكريم في الآيات المتقدمة يضع أصبع التحقيق على الأصل والمنبع، ويبيّن أنواع العلاج وأسباب النصر والهزيمة فيقول: لأجل معرفة الأسباب الأصيلة لا يلزم البحث عنها في السماوات ولا في الأرضين، ولا وراء الأوهام والخيال، بل ينبغي البحث عنها في وجودكم وفكركم وأرواحكم وأخلاقكم، وفي نظمكم والإِجتماعية، فإنّ كل ذلك كامن فيها. فالشعوب التي فكّرت مليّاً وحركت عقولها ووحدّت جموعها وتآخت فيما بينها، وكانت قوية العزم والإِرادة، وقامت بالتضحية والفداء عند لزوم ذلك، هذه الشعوب منتصرة حتماً. أمّا إذا حَلّ الضعف والتخاذل والركود مكان العمل والسعي الحثيث، وحلّ التراجعُ مكان الجرأة والنفاقُ والتفرقة مكان الإِتحاد، وحبُّ النفس مكان الفداء، وحل التظاهر والرياء محل الإِخلاص والإِيمان، فيبدأ عند ذلك السقوط والبلاء. وفي الحقيقة أنّ جملة: (ذلك بأنّ الله لم يك مغيّراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) تبيّن أسمى قانون في حياة الإِنسانية، وتوضح أنّ مدرسة القرآن الكريم هي أكرم مدرسة فكرية لحياة المجتمعات الإِنسانية، وأوضحها حتى لأُولئك الذين نسوا في عصر الفضاء والذرّة قيمة الإِنسان، وجعلوا حركة التأريخ مرتبطة بالمصانع والمعامل وقضايا الإِقتصاد. فهي تقول لهؤلاء: إنّكم في خطأ كبير إذا أخذتم بالمعلول وتركتم العلة الأصلية أو نسيتموها، وتمسكتم بغصن واحد من شجرة كبيرة وتركتم أصولها. ولئلا نمضي بعيداً، فإنّ تأريخ الإِسلام، أو تأريخ حياة المسلمين - بتعبير أصح - قد شهد إنتصارات باهرة في بداياته، وانكسارات وهزائم مرّة صعبة بعدها. ففي القرون الأُولى كان الإِسلام يتقدم في العالم بسرعة، ويبث في كل مكان منه أنوار العلم والحريّة، ويبسط ظلاله على أقوام جدد بالثقافة والعلوم، فكان ذا قدرة متحركة ومحركة وبنّاءة معاً، وجاء بمدنية زاهرة لم يشهد التاريخ مثلها، ولم تمر بضعة قرون حتى أخذ الخمول يعطل تلك الحركة، وأخذت الفرقة والتشتت والضعف والخور والتخلف مكان ذلك الرقي، حتى بدأ المسلمون يمدون أيديهم إِلى الآخرين طلباً لوسائل الحياة الإِبتدائية، ويبعثون بأبنائهم إِلى ديار الأجانب لأخذ الثقافة والعلم، بينما كانت جامعات المسلمين يومئذ من أرقى جامعات العالم العلمية والمراكز التي تهوي إِليها أفئدة الأصدقاء والأعداء ابتغاء المعرفة. لكن الأُمور بلغت حداً بحيث أنّهم لم يصدورا علماً وصناعة، بل استوردوا ما يحتاجونه من خارج بلدانهم. وأرض فلسطين التي كانت يوماً مركز مجد المسلمين وعظمتهم ولم يتمكن الصليبيون - لمدّة مئتي عام - برغم تقديمهم ملايين القتلى والجرحى من ابترازها من أيدي المقاتلين المسلمين. إلاّ أنّهم أسلموها "اليوم" خلال ستة أيّام ببساطة، في وقت كان عليهم أن يعقدوا المؤتمرات أشهراً وسنين لإِرجاع شبر منها. ولا يعرف بعد هذا إِلى أية نتيجة سيصلون؟ ألم يَعِدُ الله عباده بالقول: (وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين) (1). أو قوله: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) (2) أو قوله: (ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون) (3). فهل الله عاجز - ولعياذ بالله - من تحقيق وعوده؟! أو قد نسيها! أو غيّرها؟ وإذا لم يكن كذلك، فلم ذهب كل ذلك المجد والعظمة والعزّة؟ إنّ القرآن الكريم يجيب - في آية قصيرة - على كل تلك التساؤلات، ويدعو إِلى العوده إِلى أعماق الوجدان، والنظر في ثنايا المجتمع، فسترون أن التغيير يبدأ من أنفسكم، وأنّ الألطاف والرحمة الإِلهية تعم الجميع، فأنتم الذين أذهبتم قدراتكم وطاقاتكم هدراً فصرتم إِلى هذا الحال. ولا تتكلم الآية عن الماضي فحسب ليقال: إنّ ما مضى قد مضى بما فيه من مرارة وحلاوة، وانتهى ولن يعود، والكلام عنه غير مجد وغير نافع. بل تتكلم الآية عن الحاضر والمستقبل أيضاً، فإنّكم إذا عدتم إِلى الله وأحكمتم أُسس إيمانكم، ووعت عقولكم، وذكرتم عهودكم ومسؤولياتكم، وتصافحت الإيدي بعضها مع بعض وتعالت الصرخات المدويّة للنهضة، وبدأتم بالجهاد والفداء والسعي والعمل على كل صعيد، فسوف تعود المياه إِلى مجاريها، وستنقضي الأيّام السود وترون أُفقاً مشرقاً وضاءً، وستعود أمجادكم العظيمة، في صورة أجلى وأكبر! تعالوا لتبديل أحوالكم، وليكتب علماؤكم، ويجاهد مقاتلوكم، ويسعى التجار والعمال، ويقرأ شبابكم أكثر فأكثر ويطهروا أنفسهم وتزداد معارفهم، ليتحرك دم جديد في عروق مجتمعكم فتتجلّى قدراتكم بشكل يعيد له أعداؤكم الأرض المحتلة التي لم يعد منه شبر واحد بالرغم من كل أنواع التذلل والرجاء والإِستعطاف!!... ومن الضروري أن نذكر هذه اللطيفة، وهي أنّ القيادة ذات تأثير مهم في مصير الشعوب، ولا ننسى أن الشعوب الواعية تختار لنفسها القيادة الحكيمة اللائقة، أمّا القادة الضعاف أو المتكبرون أو الظالمون فيسحقهم غضب الشعوب وإرادتهم القوية، ولا ينبغي أن ننسى أنّ ما وراء الأسباب والعوامل الظاهرية سلسلة من الإِمدادات الغيبية تنتظر المؤمنين والمخلصين، لكنّها لا ينالها كل أحد جزافاً، بل لابدّ من الإِستعداد والجدارة! ونختتم هذا الموضوع بذكر روايتين: الأُولى: ما ورد عن الإِمام الصّادق في هذا الشأن إذ قال (عليه السلام) "ما أنعم الله على عبد بنعمة فسلبها إياه حتى يذنب ذنباً يستحقق بذلك السلب" (4). والثّانية: مَا نقرؤه في حديث آخر له (عليه السلام) : "إنّ الله عزّ وجلّ بعث نبياً من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك: إنّه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء، فتحولوا عمّا أحبّ إِلى ما أكره إلاّ تحولت لهم عمّا يحبّون إِلى ما يكرهون. وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عمّا أكره إِلى ما أحبّ إلاّ تحولت لهم عمّا يكرهون إِلى ما يحبّون". والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة. 2 - لا جبر في العاقبة ولا جبر في التأريخ، ولا في سائر الأُمور... والموضوع المهم الآخر الذي يستفاد من هذه الآيات بوضوح، هو أنّه ليس للإِنسان مصير خاص قد تعين من قبلُ، ولا يقعُ تحت تأثير ما يسمى ب- "جبر التاريخ" و"جبر الزمان" بل إنّ الذي يصنع التأريخ وحياة الإِنسانية، ويجعل التحوّلات في الأُسلوب والأخلاق والأفكار وغيرها، وهو إرادة الإِنسان نفسه! فبناءً على ذلك فالذين يعتقدون بالقضاء والقَدر الجبري، ويقولون: إنّ الأُمور والحوادث جميعها تجري بمشيئة الله الإِجبارية، تردّهم هذه الآية. وكذلك الجبر المادي الذي يجعل من الإِنسان ألعوبة بيد الغرائز التي لا تتغير وأُصول الوارثة. أو جبر المحيط بحيث يرون أنّه تتحكم فيه الأوضاع الإِقتصادية والمعامل والمصانع. فكل ما تقدم من "الجبر" ترفضه المدرسة الإِسلامية، ويرفضه القرآن، فالإِنسان حرّ وهو الذي يقرر مصيره بنفسه. إنّ الإِنسان - بملاحظة ما قرأناه في الآيات من قانون - يمسك بزمام مصيره وتأريخه بنفسه، فيصنع لها الفخر والنصر، وهو الذي يسوق نفسه إِلى الإِبتلاء والمذلة، فداؤه منه ودواؤه بيده، فإذا لم يغير نفسَه ولم يسع في بناء شخصيته لن يكون له دور في صياغة مصيره وشأنه. ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ﴾ كرر تأكيدا ﴿وَكُلٌّ﴾ من الأمم المكذبة ﴿كَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ أنفسهم بالكفر.