ثمّ تضيف الآية أن اتّحاد تلك القلوب، أو إيجاد تلك الألفة، لم يكن بوسائل مألوفة أو مادية (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألّف بينهم).
إنّ الذين يعرفون حالة نفوس المتعصبين والحاقدين، كأُولئك الذين كانوا في العصر الجاهلي، يعرفون كذلك أن تلك الأحقاد والضغائن لم يكن بالإِمكان إزالتها، لا بالمال ولا بالجاه والمقام، لأنّها كانت لا تزول عندهم إلاّ بالإِنتقام الذي يتكرر بصورة متسلسلة فيما بينهم، وفي كل مرّة يكون في صورة أبشع وأكثر وحشية وإجراماً، والأمر الوحيد الذي أمكن بسببه قلع تلك الجذور الفاسدة من أصولها، هو إحداث ثورة عارمة وتغيير شامل في الأفكار والأرواح والعقائد، ثورة تصنع تحوّلاً في شخصياتهم وتبدل أساليب تفكيرهم، وترفعهم عن الحضيض الذي كانوا فيه، للتتجلى لهم أعمالهم السابقة في وجهها الكالح القبيح، فيطهروا بذلك أنفسهم، ويدرأوا عنها الأحقاد والأوساخ والعصبية القبلية العمياء.
وهذه أُمور لا يمكن إيجادها بالثروة ولا بالمال، بل في ظلال الإِيمان والتوحيد الخالص فحسب.
وتضيف الآية معقبة في الختام (إنّه عزيز حكيم).
فعزته تقتضي عجز الاخرين من الوقوف في مواجهته، وحكمته تقتضي أن تكون كل أُموره جاريةً وفق حساب دقيق ونظام صحيح، ولهذا فإنّ الخطة الدقيقة وحدت القلوب المتنافرة المتفرقة وجعلتها تنصاع للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لينشروا أنوار الهداية في كل أرجاء العالم.
ملاحظتان
1 - قال بعض المفسّرين: إنّ الآية محل البحث تشير إِلى الخلافات بين الأوس والخزرج، الذين هم من الأنصار فحسب، ولكن نظراً إِلى أنّ المهاجرين والأنصار نهضوا جميعاً لنصرة النّبيّ فيتّضح اتساع مفهوم الآية.
ولعل أُولئك كانوا يتصورون أنّ الخلافات كانت قائمة بين الأوس والخزرج دون غيرهم، مع أنّه كانت اختلافات كثيرة في المستويات الطبقية والإِجتماعية بين الفقراء والأغنياء، والكبار والصغار، بين هذه القبيلة وتلك، تلك الخلافات و"الإِنشقاقات" أذهبها الإِسلام ومحا آثارها، كما يقول القرآن الكريم في مكان
آخر: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً) (5).
2 - إنّ هذا القانون لا يختص بالمسلمين الأوائل فحسب، فاليوم حيث يبسط الإِسلام ظلاله على ثمانمائة مليون مسلم في أنحاء العالم، وهم من مختلف العناصر والأقوام المتباعدة والمجتمعات المتنوعة.
إذ لا يمكن إيجاد أية حلقة اتصال بين كل هؤلاء سوى حلقة الإِيمان والتوحيد، فإنّ الأموال والثروات والمؤتمرات لا يمكنها أن تفعل شيئاً مهماً في هذا المجال، بل ما يمكن أن يوحدهم هو إيقاد شعلة الإِيمان أكثر في قلوب هؤلاء كما حصل عند المسلمين الأوائل، لأنّ النصر لا يتحقق إلاّ عن هذا الطريق، وهو طريق الأخوة الإِسلامية بين جميع الناس.
وتخاطب الآية الأخيرة من الآيات محل البحث النّبي بالقول: (يا أيّها النّبي حسبك الله وما اتبعك من المؤمنين).
ونقل بعض المفسّرين أنّ هذه الآية الكريمة نزلت عندما قال جماعة من يهود بني قريظة وبني النضير لما قالوا للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : نحن نسلم ونتبعك، يعني إنّنا مستعدون لا تباعك ونصرتك، فنزلت هذه الآية محذرةً النّبي لئلا يعتمد على هؤلاء، بل المعول عليه هو الله والمؤمنون (6).
وقد أورد الحافظ أبو نعيم - وهو من أكابر علماء السنة - في كتابه فضائل الصحابة، بسنده، أنّ هذه الآية نزلت في حق علي أميرالمؤمنين، فالمقصود بالمؤمنين هو علي (عليه السلام) (7).
وقد قلنا مراراً: إنّ مثل هذه التفاسير وأسباب النّزول لا تجعل الآيات محدودة ومنحصرةً، بل المقصود فيها هو أنّ شخصاً كعلي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي كان في أوّل صفوف المؤمنين هو السند الأوّل للنبي بعد الله من بين المسلمين، مع أنّ بقية المؤمنين هم أنصار النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعوانه.
﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ مع تضاغنهم ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾ من المال لتؤالف بينهم ﴿مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ لشدة عداوتهم ﴿وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ بقدرته معجزة لك ﴿إِنَّهُ عَزِيزٌ﴾ غالب لا يعجزه شيء ﴿حَكِيمٌ﴾ في صنعه.