لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
أمّا الآية الأخيرة فتشير إِلى الطائفة الرّابعة من المسلمين، أي أُولئك الذين آمنوا وهاجروا من بعد، فتقول: (والذين آمنوا من بعدُ وهاجروا وجاهدوا معكم فأُولئك منكم). أي أنّ المجتمع الإِسلامي ليس مجتمعاً منغلقاً ومحصوراً على نفسه،بل أبوابه مفتوحة لجميع المؤمنين والمهاجرين والمجاهدين، وإن كان للمهاجرين الأوائل مقام خاص ومنزلة كريمة، إلاّ أن ذلك لا يعني أن المؤمنين الجدد والمهاجرين في المستقبل لا يعدّون جزءاً من المجتمع الإِسلامي ولا يكونون من نسيجه. وتشير الآية في ختامها إِلى ولاية الأرحام بعضهم لبعض، وأوليتها فيما جعله الله في عبادة من أحكام، فتقول: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله). وفي الحقيقة فإنّ الآيات السابقة تتكلم عن ولاية المؤمنين والمسلمين العامّة "بعضهم إِلى بعض" أمّا هذه الآية محل البحث فتؤكّد هذا الموضوع في شأن الأرحام والأقارب، فهم إضافة إِلى ولاية الإِيمان والهجرة يتمتعون بولاية الأرحام أيضاً، ومن هنا فهم يرثون ويورثون بعضهم بعضاً، إلاّ أنّه لا إرث بين غيرهم من المؤمنين الذين لا علاقة قربى بينهم. فبناءً على ذلك فإنّ الآية الأخيرة لا تتكلم عن الإِرث، بل تتكلم عن موضوع واسع من ضمنه موضوع الإِرث. وإذا وجدنا في الرّوايات الإِسلامية، وفي الكتب الفقهية، استدلالا بهذه الآية والآية المشابهة لها في سورة الأحزاب على الإِرث، فلا يعني ذلك أن الآي الذي استُدل به على الإِرث منحصر بهذا الشأن فحسب، بل توضح قانوناً كليّاً، والإِرث جزء منه. ولهذا نجد أنّه استُدل بهذه الآية محل البحث على موضوع خلافة النّبي مع أنّها غير داخلة في موضوع الإِرث المالي. واستُدل بها على أولوية غسل الميت، كما صّرحت به الرّوايات الإِسلامية. وبملاحظة ما ذكرناه آنفاً يتّضح أنّه لا دليل على ما أصر عليه جماعة من المفسّرين على انحصار هذه الآية بمسألة الإرث، وإذا أردنا أن نختار مثل هذا التّفسير فإنّ السبيل الوحيد له أن نعده مستثنياً الإِرث من الولاية المطلقة، التي بيّنتها الآيات السابقة لعامّة المهاجرين والأنصار، فنقول: إنّ الآية الأخيرة تقول بأنّ ولاية المسلمين العامّة بعضهم لبعض لا تشمل الإِرث. وأمّا الإِحتمال بأنّ الآيات السابقة تشمل الإِرث أيضاً ثمّ نسخت الآية الأخيرة هذا الحكم منها، فيبدو بعيداً جدّاً، لأنّ الترابط في المفهوم بين هذه الآيات جميعاً من الناحية المعنوية، بل حتى التشابه اللفظي، كل ذلك يدل على أنّ الآيات نزلت معاً في وقت واحد. وبهذا لا يمكن القول بالتناسخ بين هذه الآيات. وعلى كل حال فإنّ التّفسير الأكثر تناسباً لهذه الآيات هو ما بيناه آنفاً. وفي آخر جملة من هذه الآية - التي هي آخر جملة من سورة الأنفال أيضاً - يقول الله سبحانه: (إنّ الله بكل شيء عليم). فما نزل في هذه السّورة من أحكام تتعلق بالأنفال وغنائم الحرب، وتعاليم الجهاد والصلح، وأحكام الأسرى والحرب، وما يتعلق بالهجرة وغيرها، كل ذلك كان وفق حساب دقيق يتلاءم وروح المجتمع الإِنساني، والعواطف والبشرية، والمصالح العامّة في جميع جوانبها المختلفة. ملاحظات 1 - الهجرة والجهاد إنّ دراسة التاريخ الإِسلامي تدلّ على أن هذين الموضوعين كانا من عوامل انتصار المسلمين الرئيسية قبال عدوّهم، فلولا الهجرة لتمّ دفن الإسلام في مكّة، ولو لا الجهاد لما اتسعت رقعة الإِسلام، فالهجرة أخرجت الإِسلام من منطقة خاصّة إِلى مداه الرحب وصيرته عالميّاً، والجهاد علّم المسلمين أنّهم إذا لم يعتمدوا على قدراتهم فإنّ عدوّهم الذي لا يلتزم بأية مقررات سوف لا يعترف لهم بأدنى حقّ. سوف لا يعطيهم حقوقهم المشروعة، ولا يصيخ لهم سمعاً أبداً. واليوم إذا أردنا انقاذ الإِسلام من الطرق المسدودة، وإزاحة الموانع التي جعلها الأعداء في طريقه من كل جهة، فلا سبيل إِلى ذلك إلاّ باحياء هذين الاصلين: الهجرة والجهاد. فالهجرة توصل صوت المسلمين إِلى أسماع العالم كله، وتروي ظمأ القلوب المتعطشة للحق والعدل ومن هو في شوق إِلى معرفة الحقيقة. والجهاد يهب المسلمين التحرك والحياة، ويبعد اعداءهم الذين لا ينفعهم إلاّ منطق القوة عن قارعة الطريق ويبيدهم. وقد حدثت الهجرة في الإِسلام مراراً. فكانت هجرة المسلمين من مكّة إِلى الحبشة حيث غرسوا بها الإِسلام خارج الجزيزة العربية وبنوا فيها حصناً للمسلمين الأوائل قبال ضغوط أعدائهم. ثمّ هجرة النّبي والمسلمين الأولى إِلى المدينة، ولهؤلاء المهاجرين الذين يطلق عليهم (مهاجروا بدر) أهمية قصوى في تأريخ الإِسلام، لأنّهم اتّجهوا ظاهراً نحو مستقبل مجهول مظلم، وغضوا ابصارهم عن جميع ما ملكوه في سبيل الله، وأعرضوا عن حطام الدنيا. هؤلاء المهاجرين أي: "المهاجرون الأوّلون" مثلوا في الحقيقة الحجر الأساس لصرح الإِسلام العظيم، والقرآن يثني عليهم بالتكريم والتعظيم، ولوليهم عناية خاصّة، لأنّهم كانوا من أشد المسلمين تضحيةً. "الهجرة الثّانية" أُطلقت على هجرة طائفة أُخرى من المسلمين إلى المدينة، وذلك بعد صلح الحديبية والحصول على محيط آمن نسبياً بعد هذا الصلح، وقد تطلق الهجرة على كل مهاجر من مكّة إلى المدينة حتى بعد واقعة بدر، وإلى زمانفتح مكّة. أمّا بعد فتح مكّة فقد انتفت الهجرة من مكّة إِلى المدينة، لأنّ مكّة أصبحت مدينة إسلامية أيضاً، والحديث النبوي المشهور "لا هجرة بعد الفتح" يشير إِلى هذا المعنى. لكن هذا الكلام لا يعني أن مفهوم الهجرة زاك من قاموس مباديء الإِسلام كليّاً كما يتصور بعضهم، بل الهجرة من مكّة إِلى المدينة انتفى موضوعها، وإلاّ فمتى ما حدثت ظروف كظروف المسلمين الأوائل فقانون الهجرة باق على قوته، وسوف يبقى مادام الإِسلام يتسع حتى يستوعب العالم أجمع. ومع الأسف الشديد فإنّ أغلب المسلمين لنسيانهم هذا الأصل الإِسلامي المهم انغلقوا على أنفسهم، بينما نرى المبشرين المسيحيين والفرق الضالة والإِستعمار يهاجرون إِلى أنحاء المعمورة كلها، ويذهبون حتى إِلى القبائل أو الطوائف المتوحشة ممن يأكلون لحوم البشر في مجاهيل أفريقيا، ويجوبون القطبين المتجمدين الشمالي والجنوبي في سبيل تحقيق أهدافهم، مع أن هذه مهمّة المسلمين في الواقع، إلاّ أن العمل أضحى من الآخرين! والأعجب من ذلك وجود الكثير من القرى في جوار المدن الإِسلامية الكبرى، وبمسافة لا تبعد كثيراً عنها، إلاّ أن أهلها لا يعرفون عن الإِسلام شئياً، ولا يعرفون أحكامه، وربّما لم يروا وجه مبلغ إسلامي هناك أبداً. لهذا فإنّ محيطهم مستعد لنشوء جراثيم الفساد والمذاهب المختلقة والبدع التي يفتعلها "الإِستعمار" ولا ندري بماذا يجيب المسلمون ربّهم يوم القيامة - وهم ورثة المهاجرين الأوائل - إزاء هذه الحال المزرية؟! وبالرغم من مشاهدة تحرك في هذا الصدد أخيراً، إلاّ أنّه محدود وغير كاف ابداً. وعلى أية حال، فإن موضوع الهجرة وأثرها في تاريخ الإِسلام ومصير المسلمين أكبر من أن نأتي على جميع جوانبه بهذا الإِختصار (ولنا كلام بهذا الشأن لدى تفسير الآيات التي تتناول هذا الموضوع إن شاء الله...). 2 - المبالغة والإِغراق في تنزيه الصحابة حاول بعض إخواننا أهل السنة أن يستنتج من ما أولاه القرآن للمهاجرين السابقين "الأوائل" من إهتمام واحترام، أنّهم لن يرتكبوا ذنباً إِلى آخر عمرهم وحياتهم. وذهبوا إِلى اكرامهم واحترامهم جميعاً دون استثناء، ودون الاعتراض على هذا وذاك، وكيف ذلك؟! ثمّ عمموا هذا القول على جميع الصحابة - فضلا عن المهاجرين - وذلك لثناء القرآن عليهم في بيعة الرضوان وغيرها، وذهبوا عملا إِلى أنّ الصحابة - دون النظر إِلى اعمالهم - أفراد متميزون. فلا يحق لأيّ شخص توجيه النقد لهم والتحقيق في سلوكهم. يجوز بأيّ وجه أن يوجه النقد إليهم. ومن جملة هؤلاء المفسّر المعروف صاحب المنار، إذ حمل في ذيل الآيات محل البحث حملة شعواء على الشيعة، لأنّهم ينتقدون المهاجرين الأولين، ولم يلتفت إِلى أن مثل هذا الإِعتقاد لا يتضاد وروح الإِسلام وتاريخه!! فلا ريب أنّ للصحابة - وعلى الخصوص المهاجرين منهم - حرمةً خاصّة، إلاّ أنّ هذه الحرمة كانت قائمة ما داموا في طريق الحق ويضحّون من أجل الحق، لكن من المقطوع به أن نظرة القرآن إِلى بعضهم أو حكمه قد تغير منذ انحرف عن النهج القويم والصراط المستقيم. فمثلا، كيف يمكننا أن نبرىء طلحة والزبير من نقضهما بيعة إمامهما الذي انتخبه المسلمون "بغض النظر عن تصريح النّبي بمقامه وشأنه" وكانا من ضمن المسلمين الذين بايعوه؟ وكيف يمكن تبرأتهما من دماء سبعة عشر ألف مسلم قتلوا في حرب الجمل، مع أنّه لا عذر لمن يفسك دم إنسان واحد أمام الله مهما كان، فكيف بهذا العدد الهائل الذين سفكت دماؤهم؟ ترى هل يمكن أن نعدّ عليّاً (عليه السلام) وأصحابه في حرب الجمل على الحق كما نعدّ أعداءه فيها على الحق أيضاً؟! ونعد طلحة والزبير ومن معهما من الصحابة على الحق كذلك؟! وهل يقبل العقل والمنطق هذا التضاد الفاضح؟ وهل يمكننا أن نغض النظر من أجل عنوان "تنزيه الصحابة" ولا نلتفت إلى التأريخ وننسى كل ما حدث بعد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونضرب عرض الجدار قاعدة (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) ؟ مالكم كيف تحكمون؟! وما يمنع أن يكون الإنسان من أهل الجنّة ومؤيداً للحق يوماً، ويكون من أهل النّار ومؤيداً للباطل ومن أعداء الحق يوماً آخر؟ ... فهل الجميع معصومون؟ ألسنا نرى التغييرات في أحوال الأشخاص بأم أعيننا؟! قصة "اصحاب الردّة" وارتداد جمع من المسلمين بعد رحلة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مذكورة في كتب أهل السُنّة والشّيعة، وأن الخليفة الأوّل تصدى لهم وقاتلهم، فهل يعقل أنّ أحداً من "اصحاب الردّة" لم ير النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكونوا في عدّة الصحابة؟ والأعجب من ذلك أنّ بعضاً تشبت بالإِجتهاد للتخلص من الطريق المسدود والتناقض في ذلك، وقالوا: إن أمثال طلحة والزبير ومعاوية ومن لفّ لفهم قد اجتهدوا فأخطأوا وليسوا مذنبين، بل هم مثابون مأجورون بأعمالهم من قبل الله! فما أفضح هذا المنطق؟! فهل الثورة على خليفة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونقض البيعة وهدر دماء الآلاف من الأبرياء من أجل رئاسات دنيوية وحب المال، موضوع معقد ومبهم ولا يعرف أحد ما فيه من سوء؟! ترى هل في سفك كل تلك الدماء البرئية أجر وثواب عند الله؟! فإذا أردنا تبرئة جماعة من الصحابة ممّا ارتكبوه من جرائم، فسوف لا نرى مجرماً أو مذنباً في الدنيا، وسنبرىء بهذا المنطق جميع القتلة والمجرمين والجبابرة. إنّ مثل هذا الدّفاع غير المنطقي - عن الصحابة - سيسبب النظرة السيئة إِلى أصل الإِسلام. والخلاصة، أنّنا لا سبيل لنا إلاّ احترام الجميع خاصّة أصحاب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ماداموا لم ينحرفوا عن مسير الحق والعدل ومناهج الإِسلام، وإلاّ فلا. 3 - الإِرث في قوانين الإِسلام كما أشرنا سابقاً في تفسير سورة النساء، فإنّ الناس في زمان الجاهلية كانوا يتوارثون عن ثلاث طرق: 1 - عن طريق النسب "وكان منحصراً بالأولاد الذكور، أمّا الأطفال والنساء فهؤلاء محرومون من الإِرث". 2 - وعن طريق "التبني" بأن يجعل ولد غيره ولَده. 3 - وعن طريق العهد الذي يعبر عنه بالولاء (1). وفي بداية الإسلام كان العمل جارياً بهذه الطرق قبل نزول قانون الإِرث، إلاّ أنّه سرعان ما حلّت الأخوة الإِسلامية مكان ذلك، وورث المهاجرون الأنصار فحسب، وهم الذين تآخوا وعقدوا عهد الأخوة الإِسلامية، وبعد أن اتسع الإِسلام أكثر فأكثر شُرّع حكم الإرث النسبي والسببي، ونسخ حكم الأخوة الإِسلامية في الإِرث. وقد أشارت إليه الآيات - محل البحث - والآية (رقم 6) من سورة الأحزاب، إذ تقول: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله). كل هذا مقطوع به من حيث التاريخ، إلاّ أنّه - كما قلنا من قبل - فإن جملة (وأولو الأرحام) الواردة في الآيات محل البحث لا تختص بمسألة الإِرث، بل هي ذات معنى واسع، والإِرث جزء منه. 4 - ما المراد من الفتنة والفساد الكبير احتمل المفسّرون في تفسير هاتين الكلمتين الواردتين في الآيات محل البحث احتمالات كثيرة، إلاّ أنّ ما ينسجم أكثر مع مفهوم هذه الآية هو أنّ المراد من "الفتنة" هو الإِختلاف والتفرق وتزلزل مباني العقيدة الإِسلامية على أثر وسوسة الأعداء، و"الفساد" يشمل كل إخلال وتخريب للنظم الإِجتماعية المختلفة وخاصّة سفك الدماء البريئة والارهاب وأمثال ذلك. وفي الحقيقة فإنّ القرآن المجيد ينذر المسلمين إذا لم يحكموا علائق الأخوة والتعاون فيها بينهم، ولم يقطعوا ارتباطهم بالعدوّ، فإنّ جماعتهم تزداد تشتتاً يوماً بعد يوم، وبنفوذ الأعداء داخل المجتمع الإِسلامي ووساوس إغواءاتهم تزلزل أُسس الإِيمان وقواعده، ويبتلى المسلمون عن هذا الطريق بفتنة عظيمة. وكذلك إذا لم تكن علائق إجتماعية قوية، فإنّ العدو سرعان ما ينفذ إِلى المجتمع وتحدث أنواع المفاسد من ارهاب وسفك الدماء، وتضيع الأموال واغواء الأولاد، ويبدو الضعف والنقص واضحاً في المجتمع، ويعم الفساد الكبير كل مكان. ربّنا، أيقظ مجتمعنا الإِسلامي بلطفك. ونَبهّنا إِلى أخطار التعاون مع الأعداء وتكوين العلاقة وإياهم. ونزّه مجتمعنا من الفتنة والفساد الكبير بنور المعرفة ووحدة الكلمة، برحمتك يا أرحم الراحمين. نهاية سورة الأنفال ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ﴾ أي بعد السابقين بالإيمان والهجرة ﴿وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ﴾ أيها المهاجرون والأنصار ﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ﴾ ذوو القربات ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ في الميراث من الأجانب ﴿فِي كِتَابِ اللّهِ﴾ أي حكمه أو اللوح أو القرآن ﴿إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ومنه الميراث.