التّفسير
الصفات الخاصّة لعباد الرحمن:
هذه الآيات - فما بعد - تستعرض بحثاً جامعاً فذاً حول الصفات الخاصّة لعباد الرحمن، إكمالا للآيات الماضية حيث كان المشركون المعاندون حينما يذكر اسم الله "الرحمن" يقولون وملء رؤوسهم استهزاء وغرور "وما الرحمن"؟ ورأينا أن القرآن يعرّف لهم "الرحمن" ضمن آيتين، وجاء الدور الآن ليعرّف "عباد الرحمن".
تبيّن هذه الآيات اثنتي عشرة صفة من صفاتهم الخاصّة، حيث يرتبط بعضها بالجوانب الإعتقادية، وبعض منها أخلاقي، ومنها ما هو إجتماعي، بعض منها يتعلق بالفرد، وبعض آخر بالجماعة، وهي أوّلا وآخراً مجموعة من أعلى القيم الإنسانية.
يقول تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً).(1)
إن أول صفة لـ: "عباد الرحمن" هو نفي الكبر والغرور والتعالي، الذي يبدو في جميع أعمال الإنسان حتى في طريقة المشي، لأنّ الملكات الأخلاقية تظهر نفسها في حنايا أعمال وأقوال وحركات الإنسان بحيث أن من الممكن تشخيص قسم مهم من أخلاقه - بدقّة - من أسلوب مشيته.
نعم، إنّهم متواضعون، والتواضع مفتاح الإيمان، في حين يعتبر الغرور والكبر مفتاح الكفر.
لقد رأينا بأُم أعيننا في الحياة اليومية، وقرأنا مراراً في آيات القرآن أيضاً، أن المتكبرين المغرورين لم يكونوا مستعدين حتى ليصغوا إلى كلام القادة الإلهيين، كانوا يتلقون الحقائق بالسخرية، ولم تكن رؤيتهم أبعد من أطراف أُنوفهم، تُرى أيمكن أن يجتمع الإيمان في هذه الحال مع الكبر؟!
نعم، هؤلاء المؤمنون، عباد ربهم الرحمن، والعلامة الأُولى لعبوديتهم هو التواضع... التواضع الذي نفذ في جميع ذرات وجودهم، فهو ظاهر حتى في مشيتهم.
فإذا رأينا أنّ إحدى أهم القواعد التي يأمر الله بها نبيّه هي (ولا تمش في الأرض مرحاً، إنّك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا) (2) فلنفس هذا السبب أيضاً، وهو أن التواضع روح الإيمان.
حقّاً إذا كان للإنسان أدنى معرفة بنفسه وبعالم الوجود، فسيعلم كم هو ضئيل حيال هذا العالم الكبير، حتى وإن كانت رقبته كالجبال، فإن أعلى جبال الأرض أمام عظمة الأرض أقل من تعرجات قشر (النارنج) بالنسبة إليها، تلكم الأرض التي هي نفسها لا شيء بالنسبة الى الأفلاك العظيمة.
ترى أليست هذه الحالة من الكبر والغرور، دليلا على الجهل المطلق!؟
نقرأ في حديث رائع عن النّبي(ص) ، أنّه كان يعبر أحد الأزقة يوماً ما، فرأى جماعة من الناس مجتمعين، فسألهم عن سبب ذلك فقالوا: مجنون شغل الناس بأعمال جنونية مضحكة، فقال: رسول الله(ص): أتريدون أن أخبركم من هو المجنون حقاً، فسكتوا وأنصتوا بكل وجودهم فقال(ص): "المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرك جنبيه بمنكبيه، الذي لا يرجى خيره ولا يؤمن شرّه، فذلك المجنون، وهذا مبتلى!".
الصفة الثّانية لـ "عباد الرحمن" الحلم والصبر، كما يقول القرآن في مواصلته هذه الآية (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً).
السلام الذي هو علامة اللامبالاة المقترنة بالعظمة، وليس الناشيء عن الضعف.
السلام دليل عدم المقابلة بالمثل حيال الجهلة الحمقى، سلام الوداع لأقوالهم غير المتروية، ليس سلام التحية الذي هو علامة المحبة ورابطة الصداقة.
والخلاصة، أنه السلام الذي هو علامة الحلم والصبر والعظمة.
نعم، المظهر الآخر من مظاهر عظمتهم الروحية، هو التحمل وسعة الصدر اللذين بدونهما سوف لا يطوي أي إنسان طريق "العبودية لله" الصعب الممتلىء بالعقبات، خصوصاً في المجتمعات التي يكثر فيها الفاسدون و"مفسدون" وجهلة.
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ أي هينين أو مشيا هينا أي بسكينة ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ﴾ بما يكرهونه ﴿قَالُوا سَلَامًا﴾ تسلما منكم ومتاركة لكم أو قولا يسلمون فيه من الإثم والإيذاء.