التّفسير
تناولت الآيات السابقة موضوع قيام تعاليم الإِسلام على أساس المنطق، وقيام دعوته على أساس الإِستدلال والإِقناع لا الإِكراه، وهذه الآية تواصل نفس التوجيهات فتنهى عن سب ما يعبد الآخرون - أي المشركون - لأنّ هذا سوف يدعوهم إِلى أن يعمدوا هم أيضاً - ظلماً وعدواناً وجهلا - إِلى توجيه السب إِلى ذات الله المقدسة: (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علم).
يروى أنّ بعض المؤمنين كانوا يتألمون عند رؤيتهم عبادة الأصنام، فيشتمون أحياناً الأصنام أمام المشركين، وقد نهى القرآن نهياً قاطعاً عن ذلك، وأكّد إِلتزام قواعد الأدب واللياقة حتى في التعامل مع أكثر المذاهب بطلاناً وخرافة.
إِنّ السبب واضح، فالسّب والشّتم لا يمنعان أحداً من المضي في طريق الخطأ، بل إِنّ التعصب الشديد والجهل المطبق الذي يركب هؤلاء يدفع بهم إِلى التمادي في العناد واللجاجة وإِلى التشبث أكثر بباطلهم، ويستسهلون إطلاق ألسنتهم بسبّ مقام الرّبوبية جل وعلا، لأنّ كل أُمّة تتعصب عادة لعقائدها وأعمالها كما تقول العبارة التّالية من الآية: (كذلك زيّنا لكلّ أُمّة عملهم).
وفي الختام تقول الآية: (ثمّ إِلى ربّهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون).
بحوث
هنا ينبغي الإِنتباه إِلى ثلاث نقاط:
1 - هذه الآية نسبت إِلى الله تزيين الأعمال الحسنة والسيئة لكل شخص، وقد يثير هذا عجب بعضهم، إِذ كيف يمكن أن يزين الله أعمال المرء السيئة في نظره؟
سبق أن أجبنا مرات على مثل هذه الأسئلة فأمثال هذه التعبيرات تشير إلى صفة العمل وأثره، أي أنّ الإِنسان عندما يقوم بعمل ما بصورة متكررة، فإِنّ قبح عمله يتلاشي في نظره شيئاً فشيئاً، ويتخذ شكلا جذاباً، ولما كان علّة العلل وسبب الأسباب وخالق كل شيء هو الله، وأنّ جميع التأثيرات ترجع إِليه، فإِنّ هذه الآثار تنسب أحياناً في القرآن إِلى الله (تأمل بدقّة).
وبعبارة أوضح، إنّ عبارة (زيّنا لكل أُمّة عملهم) تفسر هكذا: لقد أقحمناهم في نتائج سوء أفعالهم إِلى الحد الذي أصبح القبيح جميلا في نظرهم.
يتضح من هذا أنّ القرآن ينسب - أحياناً - تزيين الأعمال إِلى الشيطان، وهذا لا يتعارض مع ما قلناه، لأنّ الشيطان يوسوس لهم لكي يرتكبوا الأعمال القبيحة، وهم يستسلمون لوسوسة الشيطان، فتكون النتيجة أنّهم يلاقون عاقبة أعمالهم السيئة، وبالتعبير العلمي نقول: إِنّ السببية من الله، ولكنّ هؤلاء هم الذين يوجدون السبب، مدفوعين بوسوسة الشيطان (تأمل بدقّة) (1).
2 - الأحاديث الإِسلامية - أيضاً - تواصل منطق القرآن في ترك سبّ الضالين والمنحرفين، فقد أمر كبار قادة الإِسلام بضرورة الإِستناد إِلى المنطق والإِستدلال دائماً، وبلزوم تجنب شتم عقائد الآخرين، وقد جاء في نهج البلاغة أنّ الإِمام علي (ع) خاطب فريقاً من أصحابه الذين كانوا يسبون أتباع معاوية في حرب صفين، فقال: "إِني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر" (2).
3 - قد يعترض بعضهم قائلا: كيف يمكن لعبدة الأصنام أن يسبوا الله مع أنّهم في الغالب يؤمنون بالله ويعتبرون الأصنام مجرّد شفعاء إلى الله؟
ولكنّنا إِذا أمعنا النظر في حالة العامّة المعاندين المتعصبين أدركنا أنّ هذا ممكن ولا عجب فيه، فإِنّ أمثال هؤلاء إِذا أُثير غضبهم سعوا للإِنتقام والإِثارة بأي ثمن كان، حتى وإن كان ذلك بالإِساءة إِلى عقائد مشتركة يقول الآلوسي في "روح المعاني" إِنّ بعض العوام من الجهلة عندما سمع بعض الشيعة يسب الشّيخين أزعجه ذلك فراح يسب علياً (ع)، وإِذا سئل عمّا دعاه إِلى سب الإِمام علي (ع) الذي يحترمه، قال: كنت أُريد أن أنتقم من ذلك الشيعي، ولم أجد ما يغضبه ويثيره خيراً من هذا، فحملوه على أن يتوب عما فعل (3).
﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ يعبدونهم ﴿مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا﴾ تعديا للحق وقرىء بالتشديد ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ جاهلين بالله ﴿كَذَلِكَ﴾ التزيين ﴿زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ من الكفرة ﴿عَمَلَهُمْ﴾ أي لم نكفهم حتى حسن عندهم سوء عملهم أو أمهلنا الشيطان حتى زينه لهم ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ بالمجازاة عليه.