الآية التّالية تورد هذا الموضوع نفسه بعبارة مغايرة مع مزيد من الاستدلال، فتقول: لم لا تأكلون من اللحوم التي ذكر اسم الله عليها، في الوقت الذي بيّن الله لكم ما حرم عليكم؟ (وما لكم ألا تأكلوا ممّا ذكر اسم اللّه عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم).
مرّة أُخرى نشير إِلى أنّ التوبيخ والتوكيد ليسا من أجل ترك أكل اللحم الحلال، بل الهدف هو أنّ هذه هي التي ينبغي أن تأكلوا منها، لا من غيرها، وبعبارة أُخرى: التوكيد يكون هنا على النقطة المقابلة لمفهوم العبارة، من هنا استدل على ذلك بالقول: (قد فصل لكم ما حرم عليكم).
أمّا موضع هذا التفصيل فقد يتصوّر البعض أنّه في سورة المائدة، أو في آيات من هذه السورة (الأنعام، 145).
ولما كانت هذه السورة قد نزلت في مكّة، وسورة المائدة نزلت بالمدينة، والآيات التّالية من هذه السورة لم تكن قد نزلت بعد فإنّ أيّاً من هذين الإِحتمالين غير صحيح، فالموضوع إِمّا أن يكون الآية (115) من سورة النحل التي تذكر بعض اللحوم المحرم أكلها، وخاصّة التي لم يذكر عليها اسم الله، أو أن يكون المراد التعاليم التي كان رسول الله (ص) بينها بشأن اللحوم، لأنّ النّبي (ص) لم يكن يتحدث إِلاّ بوحي.
ثمّ يستثني من ذلك حالة واحدة: (إِلاّ ما اضطررتم إِليه) سواء كان هذا الإِضطرار ناشئاً من وجود الإِنسان في البيداء وتحت ضغط الجوع الشديد، أو الوقوع تحت سيطرة المشركين الذين قد يجبرونه على أكل لحومهم.
ثمّ تشير الآية إِلى أنّ كثيراً من الناس يحاولون أن يضلوا الآخرين عن جهل أو عن إِتباع الهوى: (وإِنّ كثيراً ليضلّون بأهوائهم بغير علم).
وعلى الرغم من أنّ إِتباع الهوى مصحوب دائماً بالجهل، ولكنّه يكرر ذلك للتوكيد فيقول: (... بأهوائهم بغير علم).
يستفاد من هذا التعبير أيضاً انّ العلم الصحيح لا يقترن بإِتّباع الهوى والإِنسياق مع الخيال، وحيثما اقترن فهو الجهل لا العلم.
يلزم القول أنّ الجملة المذكورة ربّما تكون إِشارة إِلى ما كان سائداً بين المشركين العرب الذين كانوا يسوغون لأنفسهم أكل لحوم الحيوانات الميتة بالقول: أيجوز أن تعتبر لحوم الحيوانات التي نقتلها بأنفسنا حلالا، ولحوم الحيوانات التي يقتلها الله حراماً؟
بديهي أنّ هذا لم يكن سوى سفسطة فارغة، لأنّ الحيوان الميت ليس حيواناً ذبحه الله ليمكن مقارنته بالحيوانات المذبوحة، إِذ إِنّ الحيوان الميت بؤرة الأمراض ولحمه فاسد، ولهذا حرم الله أكله، وأخيراً يقول: (إِنّ ربّك هو أعلم بالمعتدين) الذين يحاولون بهذه الأدلة الواهية تنكّب طريق الحق، بل يسعون إِلى إِضلال الآخرين.
الآية الثّالثة تذكر قانوناً عاماً، لاحتمال أن يرتكب بعضهم هذا الإِثم في الخفاء، وتقول: (وذروا ظاهر الإِثم وباطنه).
يقال إِنّهم في الجاهلية كانوا يعتقدون أن الزنا إِذا ارتكب في الخفاء فلا بأس به، أما إِذ ارتكب علناً فهو الإِثم! واليوم - أيضاً - نجد أُناساً يسيرون وفق هذا المنطق الجاهلي فيخشون إِرتكاب الإثم علانية، ولكنّهم يرتكبون في الخفاء ما يشاؤون من الآثام دون رادع من ضمير.
إِنّ هذه الآية لا تدين هذا المنطق فحسب، بل تحمل مفاهيم واسعة، فهي بالإِضافة إِلى ما قلناه آنفاً تتضمن الكثير من التفاسير التي وردت للإِثم الظاهر والباطن، من ذلك مثلا - قولهم: اِنّ الإِثم الظاهر هو ما يرتكب بوساطة أعضاء الجسم، والإِثم الباطن هو ما يرتكب في القلب وفي النيّة والعزم.
ثمّ من باب تهديد المذنبين بما ينتظرهم من مصير مشؤوم وتذكيرهم بذلك، تقول الآية: (إِن الذين يكسبون الإِثم سيجزون بما كانوا يقترفون).
عبارة (يكسبون الإِثم) تعبير رائع يشير إِلى أن الإِنسان في هذه الدنيا أشبه بأصحاب رؤوس الأموال الذين يدخلون سوقاً كبيرة، أنّ رؤوس أموالهم الذكاء والعقل والعمر والشباب والطاقات المختلفة التي هي مواهب الله، فالمسكين ذاك الذي "يكتسب" الإِثم بدل أن يكتسب السعادة والشخصية الإِنسانية والتقوى والقرب إِلى الله.
و"سيجزون" أي ينالون الجزاء في المستقبل القريب... قد يشير إِلى يوم القيامة، وأنّه وإن بدا في نظر بعضهم بعيداً، فهو في الحقيقة قريب جداً، وإن هذا العالم سرعان ما تنطوي أيّامه ويحين المعاد.
وقد يكون إشارة إِلى أنّ أغلب أفراد البشر ينالون في هذه الدنيا بعض ما يستحقونه من نتائج أعمالهم السيئة بشكل ردود فعل فردية وإِجتماعية .
﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ في آية حرمت عليكم الميتة ﴿إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ مما حرم عليكم فهو حلال لكم للضرورة ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ﴾ بفتح الياء وضمها ﴿بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ بغير حجة وبرهان يفيد علما ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ المجاوزين عن الحلال إلى الحرام.