التّفسير
الإِمدادات الإِلهية:
تعقيباً على الآيات السابقة التي دارت حول المؤمنين الصادقين والكافرين المعاندين تشرح هذه الآية النعم الإِلهية الكبيرة التي تنتظر الفريق الأوّل، والشقاء الذي سيصيب الفريق الثاني، فتقرر أنّ الله ينعم بالهداية على من يشاء، وذلك بأن يفتح صدره لتقبل الإِسلام، أمّا الذي لا يريد الله أن يوفقه لذلك - لسوء أعماله - يضيق صدره بحيث يجعله وكأنّه يريد أن يصعد إِلى السماء.
(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإِسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنّما يصّعد في السماء).
ولتوكيد هذه الأمر تضيف الآية: (كذلك يجعل الله الرّجس على الذين لا يؤمنون).
فيسلبهم التوفيق ويركسهم في التعاسة والشقاء.
ملاحظات
هنا يبغي أن نلاحظ النقاط التّالية:
1 - ما المقصود من "الهداية" و"الضلالة"؟
سبق لنا أن قلنا مرات عديدة أن المقصود من لفظي "الهداية" و"الضلالة" الإِلهيين هو توفير الظروف والمقدمات المؤدية إِلى الهداية بالنسبة للذين لهم الإِستعداد لذلك، وسلبها عن الذين لا استعداد لهم لذلك،بالنظر إِلى أعمالهم.
إِنّ السالكين طريق الحق والباحثين عن الإِيمان المتعطشين إِليه، يضع الله في طريقهم مصابيح مضيئة لكيلا يضيعوا في ظلمات الطريق، وليصلوا إِلى منبع أكسير الحياة، أمّا الذين أثبتوا تماهلهم تجاه هذه الحقائق فهم محرومون من هذه الإِمدادات الإِلهية، وسوف يتعثرون في طريقهم بالكثير من المشاكل، ولا يوفّقون لهداية.
وبناءاً على ذلك، فلا الفريق الأوّل مجبور على السير في هذا الطريق،ولا الفريق الثاني في أعمالهم، وفي الواقع أنّ الهداية والضلال يكملان ما أرادوه هم بأنفسهم واختاروه.
2 - المقصود من "الصّدر" هنا هو الروح والفكر، وهذه الكناية ترد كثيراً، والمقصود من "الشرح" هو بسط الروح وإِرتفاع الفكر واتسّاع أُفق العقل البشري، لأنّ تقبّل الحق يستدعي التنازل عن الكثير من المصالح الشخصية، ممّا لا يقدر عليه إِلاّ ذوو الأرواح العالية والافكار السامية.
3 - "الحرج" بمعنى الضيق الشديد، وهذه هي حال المعاندين وفاقدي الإِيمان، ففكرهم قاصر وروحهم ضيقة صغيرة، ولا يتنازلون في حياتهم عن شيء.
4 - معجزة قرآنية علمية:
إِنّ تشبيه أمثال هؤلاء بالذي يريد أن يصعد إِلى السماء، جاء لأنّ الصعود إِلى السماء صعب جدّاً، فكذلك هو قبول الحق عند هؤلاء.
إِنّنا في كلامنا اليومي نتمثل بهذا التشبيه، فإِذا أردنا أن نقول أنّ الوصول إِلى الأمر الفلاني صعب نقول: أن تصل إِلى السماء أقرب إِليك من ذلك.
بالطّبع لم يكن الطيران في السماء للبشر آنذاك أكثر من تصور، ولكن على الرغم من تحقق ذلك اليوم، فهو ما يزال صعباً، وكثيراً ما يصادف رواد الفضاء المشاكل في طيرانهم.
ويخطر في الذهن معنى ألطف من ذلك يكمل البحث السابق، وهو أنّه ثبت اليوم علمياً أنّ الهواء المجاور للارض مضغوط بشكل يصلح لتنفس الإِنسان، ولكنّنا كلما ارتفعنا قلت كثافة الهواء ونسبة وجود الأوكسجين فيه، بحيث إِنّنا إِذا ارتفعنا بضع كيلومترات أصبح من الصعب أن نتنفس بسهولة (بغير قناع الأوكسجين)، وإِذا ما واصلنا صعودنا ازداد ضيق تنفسنا واصبنا بالإِغماء، إِن ذكر هذا التشبيه في ذلك الزمن قبل أن تثبت هذه الحقيقة العملية يعتبر واحدة من معجزات القرآن العلمية.
5 - ما هو شرح الصدر؟
في هذه الآية يعتبر "شرح الصدر" من نعم الله الكبرى و"ضيق الصدر" من عقاب الله، كما جاء ذكر هذه النعمة في قوله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك) (1) ويتضح هذا أكثر عند دراسة الأشخاص، فأنت ترى بعضهم على درجة من سعة الصدر بحيث إِنّهم قادرون على إِستيعاب كل حقيقة مهما كبرت، وعلى العكس منهم نرى صدر بعضهم من الضيق بحيث لا تكاد تنفذ إِليها أية حقيقة، فأُفق
رؤيتهم الفكرية محدود جدّاً ومقتصر على الحياة اليومية، فلو تهيأ لهم الأكل والنوم فكل شيء على ما يرام، وإذا اختل ذلك فقد انهارت حياتهم وانتهى كل شيء.
عند ما نزلت الآية المذكورة أعلاه، سئل رسول الله (ص) عن معنى شرح الصدر، فقال: "نور يقذفه الله في قلب من يشاء فينشرح له صدره وينفسح".
فسألوه: ألذلك علامة يعرف بها؟
قال: "نعم، الإِنابة إِلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والإِستعداد للموت قبل نزول الموت" (2) بالإِيمان والعمل الصالح السعي في سبيل الله.
﴿وَهَذَا﴾ البيان أو الإسلام أو التوفيق والخذلان ﴿صِرَاطُ رَبِّكَ﴾ والذي طريقه الذي ارتضاه والذي اقتضته حكمته ﴿مُسْتَقِيمًا﴾ لا عوج له أو عادلا حال مؤكدة عاملها معنى الإشارة ﴿قَدْ فَصَّلْنَا﴾ بينا ﴿الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ يتذكرون أي يتعظون فإنهم المنتفعون بها.