بعد إكمال هذه الصفات الثلاثة عشرة، يشير تعالى إلى عباد الرحمن هؤلاء مع جميع هذه الخصائص، وفي صورة الكوكبة الصغيرة، فيبيّن جزاءهم الإلهي (أُولئك يجزون الغرفة بما صبروا).
"غرفة" من مادة "غرف" (على وزن حرف): بمعنى رفع الشيء وتناوله، ويقال لما يغترف ويتناول "غرفة" (كاغتراف الإنسان الماء من العين بيده للشرب) ثمّ أُطلقت على الأقسام العليا من البناء، ومنازل الطبقات العليا، وهي هنا كناية عن أعلى منازل الجنّة.
لذلك فإنّ "عباد الرحمن" بامتلاكهم هذه الصفات، يكونون في الصف الأوّل من المؤمنين، وينبغي أن تكون درجتهم في الجنّة أعلى درجة أيضاً.
المهم أنّه يقول: إن هذا المقام العالي قد أُعطي لهم بسبب ما قدموا من ضريبة الصبر والإستقامة في طريق الله، ومن الممكن أن يتصور أن هذا وصف آخر من أوصافهم، لكن هذا في الحقيقة ليس وصفاً جديداً، بل هو ضمانة تطبيق جميع الصفات السابقة، وإلاّ فهل يمكن أن نتصور عبادة الخالق، ومواجهة الطغيان والشهوات، وترك شهادة الزور، والتواضع والخشوع وغيرها من الصفات بدون صبر واستقامة.
هذا البيان يُذكّر الإنسان بالحديث المعروف عن أمير المؤمنين علي(ع) حيث يقول: "والصبر من الإيمان كالرأس من الجسد" فبقاء الجسد من بقاء الرأس، ذلك لأن قيادة جميع أعضاء البدن تستقر في دماغ الإنسان.
وعلى هذا فللصبر هنا مفهوم واسع، فالتحمل والصمود أمام مشكلات طريق الحق، والجهاد والمواجهة ضد العصاة، والوقوف أمام دواعي الذنوب، تجتمع كلها في ذلك المفهوم، وإذا فسر في بعض الرّوايات بالصبر على الفقر والحرمان المالي، فمن المسلم أن ذلك من قبيل بيان المصداق.
ثمّ يضيف تعالى: (ويلقّون فيها تحية وسلاماً).
أهل الجنّة يحي بعضهم بعضاً، وتسلم الملائكة عليهم، وأعلى من كل ذلك أن الله يحييهم ويُسلم عليهم، كما نقرأ في الآية (58) من سورة يس (سلام من ربّ رحيم) ، ونقرأ في الآية (23 و24) من سورة يونس (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم...).
تُرى هل لـ "التحية" و"السلام" هنا معنيان، أم معنى واحد!؟ ثمّة أقوال بين المفسّرين، لكن مع الإلتفات إلى أن "التحية" في الأصل بمعنى الدعاء لحياة الغير، و"سلام" من مادة السلامة، وبمعنى الدعاء للغير.
على هذا نستنتج: أن الكلمة الأُولى بعنوان طلب الحياة، للمخاطب والكلمة الثّانية طلب اقتران هذه الحياة مع السلامة، ولو أن هاتين الكلمتين تأتيان بمعنى واحد أحياناً.
"التحية" في العرف لها معنى أوسع، فهي كل ما يقولونه في بيان اللقاء مع الآخرين، فيكون سبباً في سرورهم واحترامهم وإظهار المحبّة لهم.
ثمّ يقول تبارك وتعالى للتأكيد أكثر: (خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً).
﴿أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ﴾ جنسها وهي أعلى منازل أهل الجنة ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾ بصبرهم على الطاعات وقمع الشهوات ﴿وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا﴾ من الملائكة أو من بعضهم لبعض.