التّفسير
ما حُرِّم على اليهود:
في الآيات السابقة حُصِرت المحرمات من الحيوان في أربعة، غير أنَّ هاتين الآيتين تشيران إِلى بعض ما حرم على اليهود ليتبيّن أن أحكام الوثنيين الخرافية والمجهولة لا تنطبق لا على أحكام الإِسلام، ولا على دين اليهود (بل ولا على دين المسيح الذي يتبع في أكثر أحكامه الدين اليهودي).
ثمّ إِنّه قد صُرِح في هذه الآيات أن هذا النوع من المحرمات على اليهود كان له طابع المعاقبة وصفة المجازاة، ولو أنّ اليهود لم يرتكبوا الجنايات والمخالفات لما حُرِّم عليهم هذه الأُمور، وعلى هذا الأساس لسائل أن يسأل الوثنيين: من أين أتيتم بهذه الأحكام المصطنعة؟
ولهذا يقول سبحانه في البداية: (وعلى الذين هادُوا حَرّمنا كلَ ذي ظُفُر).
و"الظُفر" هو في الأصل المخلب، ولكنّه يُطَلق أيضاً على ظلف الحيوانات من ذوات الأظلاف (من الحيوانات التي لها أظلاف غير منفرجة الأصابع كالحصان لا كالغنم والبقر التي لها أظلاف منفرجة) لأنّ أظلافها تشبه الظُفر، كما أنّه يُطلق على خف البعير الذي يكون منتهاه مثل الظفر، ولا يكون فيه إِنشِقاق وإِنفراج مثل إِنفراج الأصابع.
وعلى هذا الأساس فإِنّ المستفاد من الآية المبحوثة هو أنّ جميع الحيوانات التي لا تكون ذات أظلاف - دواباً كانت أو طيوراً - كانت محرَّمة على اليهود.
ويستفاد هذا المعنى - على نحو الإِجمال أيضاً - من سفر اللاويين من التّوراة الحاضرة الإصحاح 11 حيث يقول: "وأمر الربّ موسى وهارون: أوصيا بني إِسرائيل: هذه هي الحيوانات التي تأكلونها من جميع بهائم الارض: تأكلون كل حيوان مشقوق الظّلف ومجتر، أمّا الحيوانات المجترة فقط ذو المشقوقة الظلف فقط، فلا تأكلوا منها، فالجمل غير طاهر لكم لأنّه مجتر ولكنّه غير مشقوق الظلف" (1).
كما أنّه يمكن أن يستفاد من العبارة التّالية في الآية المبحوثة التي تحدثت عن خصوص البقر والغنم فقط حرمة لحم البعير على اليهود بصورة كلية أيضاً.
(تأمل بدقّة).
ثمّ يقول سبحانه: (ومِنَ البَقَر والغَنَم حَرَّمنا عليهم شحومهما).
ثمّ يستثني بعد هذا ثلاثة موارد: أوّلها الشحوم الموجودة في موضوع الظهر من هذين الحيوانين إِذ يقول: (إِلاّ ما حملت ظهورُهما).
وثانياً: الشّحوم الموجودة على جنبيها، أو بين أمعائها: (أو الحوايا) (2).
وثالثاً: الشحوم التي امتزجت بالعظم والتصقت به (أو ما اختلط بعظم).
ولكنّه صرّح في آخر الآية بأنّ هذه الأُمور لم تكن محرّمة على اليهود - في الحقيقة - ولكنّهم بسبب ظلمهم وبغيهم حُرمُوا - بحكم الله وأمره - من هذه اللحوم ولشحوم التي كانوا يحبُّونها (ذلك جزيناهم ببغيهم).
ويضيف - لتأكيد هذه الحقيقة - قوله: (وإِنّا لصادقون) وإِن ما نقوله هو عين الحقيقة.
بحثان
1 - ماذا كان يقترف بنو إِسرائيل؟
لابدّ أن نرى هنا أي ظلم كان يقترفه بنو إِسرائيل أوجب أن يحرّم الله تعالى عليهم هذه النِعم التي كانوا يحبّونها؟!
هناك مذاهب متباينة للمفسّرين في هذا الصعيد، ولكن ما يستفاد من الآية (160 و161) من سورة النساء، هو أنّ علّة التحريم المذكور كان عدة أُمور:
ظلمهم للضعفاء، ومعارضتهم للأنبياء، ومنعهم من هداية الناس، وأكل الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، إِذ يقول: (فبظلم مِنَ الذين هادُوا حَرّمْنا عليهم طيّبات أُحِلَّت لهم، وبصدِّهم عن سَبيل الله كثيراً وأخذِهِمُ الرَّبا، وَقد نهوا عَنه وأكلهم أموالَ الناس بالباطِل).
2 - ما معنى "إنّا لصادقون"؟
إِنّ عبارة (وإِنّا لصادقون) التي جاءت في آخر الآية يمكن أن تكون إِشارة إِلى هذه النقطة وهي: أنّ الصدق والحق في مسألة تحريم هذه الأطعمة هو ما قلناه لا ما قاله اليهود في بعض كلامهم، وهو أنّ تحريم هذه الأطعمة واللحوم إِنّما كان من جانب إِسرائيل (يعقوب)، لأن يعقوب - كما جاء في الآية (93) من سورة آل عمران - لم يحكم بحرمة هذه الأشياء أبداً، وليس هذا سوى تهمة ألصقتها اليهود به
﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ كل ما له إصبع كالإبل والطيور والسبأع أو كل ذي مخلب وظفر ﴿وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا﴾ الثروب وشحم الكلى ﴿إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا﴾ اشتملت عليها ﴿أَوِ الْحَوَايَا﴾ أو ما اشتمل عليه الأمعاء جمع حاوية أو حاوتة ﴿أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ هو شحم الألية لاختلاطه بالعصعص ﴿ذَلِكَ﴾ الجزاء ﴿جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ﴾ بسبب ظلمهم ﴿وِإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ فيما نقول.