لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
10 - (وإِنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) إِن طريقي هذا هو طريق التوحيد، طريق الحق والعدل، طريق الطهر والتقوى فامشوا فيه، واتبعوه، واسلكوه ولا تسلكوا الطرق المنحرفة والمتفرقة، فتؤدي بكم إِلى الإِنحراف عن الله وإِلى الاختلاف، والتشرذم، والتفرق، وتزرع فيكم بذور الفرقة والنفاق. ثمّ يختم جميع هذه الأقسام وللمرّة الثّالثة - لغرض التأكيد بقوله: (ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون). بحوث إِنّ ها هنا عدّة نقاط يجب أن نقف عندها، وهي: 1 - الشروع بالتوحيد والختم بنبذ الاختلاف إِنّ الملاحَظ في هذه الآيات أنّ هذه التعاليم والأوامر العشرة بدأت بتحريم الشرك الذي هو في الواقع المنشأ الأصلي لجميع المفاسد الإِجتماعية والمحرمات الإِلهية، وانتهت - أيضاً - بالدّعوة إِلى نبذ التفرق والاختلاف الذي يُعدُّ هو الآخر نوعاً من الشرك العملي. إِنّ هذا الموضوع يكشف عن أهمية مسألة التوحيد في جميع الأُصول والفروع الإِسلامية، وبالتالي يكشف عن أن التوحيد ليس مجرّد أصل عقائدي بحت، بل يمثّل روح التعاليم الإِسلامية برمتها. 2 - التأكيدات المتتابعة لقد تكرِّرت عبارة (ذلكم وصاكم به) للتأكيد عند ختام كل آية من الآيات الثلاث، مع فوارق في الفواصل طبعاً، فقد ختمت العبارة في الآية الأُولى بجملة:: (لعلّكم تعقلون)، وفي الآية الثّانية بجملة: (لعلّكم تذكرون) وفي الآية الثّالثة بجملة: (لعلّكم تتقون). ويبدو أنّ هذه التعابير المختلفة إِشارة إِلى النقطة التّالية وهي: أنّ المرحلة الأُولى عند تلقّي أيّ حكم من الأحكام هو مرحلة "التعقل" أي فهم ذلك الحكم وإِدراكه. والمرحلة الثّانية هي: مرحلة "التذكر" وهضم ذلك الحكم وامتصاص مفاده واستيعاب محتواه. والمرحلة الثّالثة هي: المرحلة النهائية، وهي مرحلة العمل والتطبيق، وقد أسماها القرآن بمرحلة "التقوى". صحيح أنّ كل واحدة من هذه العبارات (والمراحل) جاءت بعد ذكر عدّة تعاليم من التعاليم العشرة، إِلاّ أنّه من الواضح أنّ هذه المراحل لا تختص بأحكام معيّنة، لأنّ كل حكم من الأحكام، وكل تعليم من التعاليم بحاجة إِلى "التعقل" و"التذكر" و"التقوى والعمل"، إِنّما هي رعاية جهات الفصاحة والبلاغة، التي اقتضت توزيع هذه التأكيدات (والمراحل) في أثناء تلك التعاليم العشرة. 3 - التعاليم والأوامر الخالدة لعلّنا في غنىِّ عن التذكير بأنّ هذه التعاليم والأوامر العشرة لا تختص بالدين الإِسلامي، بل كان نظيرها في جميع الشرائع المتقدمة عليه وإِن كانت قد حظيت في الإِسلام بعناية أكبر وأوسع. وفي الحقيقة أنّ هذه التعاليم ممّا يدركه العقل السويّ والضمير السليم بوضوح وجلاء وبعبارة أُخرى: هي من "المستقلات العقلية" ولهذا فإِنّها كما ذكرت في القرآن الكريم، تلاحظ بشكل أو بآخر في شرائع الأنبياء الآخرين (1). 4 - أهمية الإِحسان إِلى الوالدين إِنّ ذكر مسألة الإِحسان للوالدين - بعد مكافحة الشرك مباشرة، وقبل ذكر تعاليم مهمّة مثل حرمة قتل النفس والأمر بالعدل - يدلّ على الأهمية القصوى التي يحظى بها حق الوالدين في التعاليم الإِسلامية. ويتّضح هذا الأمر أكثر عندما نرى أن القرآن الكريم ذكر بدل تحريم أذى الوالدين الذي يلائم سياق هذه الآية في استعراضها للمحرمات، مسألة الإِحسان إِليهما، يعني أنّه ليس إزعاج الوالدين وإِيذاؤهما محرّماً فقط، بل يجب الإِحسان إِليهما. والأجمل من هذا كلّه أنّ كلمة "الإِحسان" عُدِّيت بحرف "الباء" فقال: (وبالوالدين إِحساناً) ونحن نعلم أن الإِحسان قد يعدّى بإِلى وقد يُعَدّى بالباء، فإِذا عُدِّ بإِلى كان معناه: الإِحسان إِلى الآخر سواء كان بصورة مباشرة، أو مع الواسطة. ولكنّه عندما يُعدّى بالباء يكون معناه: الإِحسان بصورة مباشرة ومن دون واسطة. وعلى هذه الأساس فإِنّ هذه الآية تؤكّد أنّ موضوع الإِحسان إِلى الوالدين من الأهمية البالغة بحيث يجب على الإِنسان أن يباشر الاحسان بنفسه إلى الوالدين (2). 5 - قتل الأولاد من الإِملاق والجوع يستفاد من هذه الآيات أنّ العرب في العهد الجاهلي لم يقتصروا على قتل البنات ووأدهن بسبب بعض العصبيات الخاطئة فحسب، بل كانوا يقتلون أولادهم الذين كانوا يُعَدُّون ثروة كبرى في المجتمع يومذاك، وذلك بسبب الفقر وخشيتهم من الفاقة، أيضاً. والله تعالى يلفت نظرهم إِلى مائدة النعم الإِلهيّة الواسعة التي يستفيد منها حتى أضعف الموجودات، ونهاهم سبحانه عن ذلك. ولكن هذا العمل الجاهلي - وللأسف البالغ - يتكّرر الآن في عصرنا في صورة أُخرى، إِذ نلاحظ كيف يعمد الناس إِلى قتل الأطفال الأبرياء وهم أجنّة عن طريق "الكورتاج" والإِجهاض بحجة النقصان الإِحتمالي في المواد الغذائية. إِنّ إِسقاط الجنين وإِن كان يُبَرَّرُ الآن بأدلة وحجج أُخرى أيضاً، إِلاّ أنَّ مسألة الفقر ومسألة نقصان المواد الغذائية، هي من أدلتها الأصليّة. هذه المسألة والمسائل المشابهة الأُخرى تشير إِلى أنّ العَهد الجاهلي يتكّرر في شكل آخر، وأنّ "جاهلية القرن العشرين" أكثر وحشية من جاهلية ما قبل الإِسلام. 6 - ما هو المقصود من الفواحش؟ "الفواحش" جمع "فاحشة" يعني ما عظم قبحه من الذنوب. وعلى هذا الأساس فإِنّ نقض العهد، والتطفيف والشرك وما شابه ذلك وإِن كانت من الذنوب الكبار، إِلاّ أنّ ذكرها في مقابل الفواحش إِنّما هو لأجل التفاوت المفهومي بينها. 7 - لا تقربوا هذه الذّنوب في الآيات الحاضرة ورد التعبير بجملة لا تقربوا في موضعين، وقد تكرر هذا الموضوع (وهذا النهي) في القرآن لبعض الذنوب الأُخر أيضاً، ويبدو أنَّ هذا التعبير قد ورد في مجالِ الذنوبِ المثيرة كالزنا، وأموال اليتامى وما شابهها، لهذا يحذّر الناس من الإِقتراب إِليها لكي لا يقعوا تحت إِثارتها. 8 - الذُّنوب الظاهرة والباطنة لا شك في أنّ جملة (ما ظهر منها وما بطن) تشمل كل الذنوب القبيحة الظاهرة، والخفية، ولكن جاء في بعض الأحاديث عن الإِمام الباقر (ع) "ما ظهر هو الزنا وما بطن هو المخالّة" (أي اتخاذ الخليلات والصديقات سرّاً وخفيّةً) ولكنّه واضح أنّ ذكر هذه الموارد إِنّما هو بيان المصداق الواضح، لا أنّه يعني إِنحصارها فيها. 9 - الوصايا العشر عند اليهود نلاحظ في التّوراة في الفصل 20 سفر الخروج أحكاماً عشرة تعرف عند اليهود بالوصايا، وهي تبدأ من الجملة الثانية وتنتهي عند السابعة عشرة من ذلك الفصل. ولكن بالمقارنة بين الوصايا العشر، وبين ما جاء في الآيات الحاضرة يتضح أنّ فرقاً واسعاً وبوناً شاسعاً بين هذين البرنامجين، وعلى أنّه لا يمكن الإِطمئنان إِلى أنّ التّوراة الحاضرة لم تنحرف في هذا المجال، كما تعرضت للتحريف في الأقسام الأُخرى. ولكنّ ما هو مسلّم هو أنّ الوصايا العشر الموجودة في التّوراة وإن كانت مشتملة على المسائل اللازمة، إِلاّ أنّها أقلُ مستوىً بكثير - من حيث السعة والأبعاد الأخلاقية، والإِجتماعية والعقيدية - من مفاد الآيات الحاضرة. 10 - كيف غَيَّرت هذه الآيات وجه المدينة المنورة؟ لقد وردت في بحار الأنوار، وكذا في كتاب أعلام الورى قصّة جميلة تحكي عن تأثير هذه الآيات البالغ في نفوس المستمعين، وها نحن ندرج هنا القصة المذكورة باختصار وفقاً لما جاء في بحار الأنوار برواية علي بن إِبراهيم. قدم أسعد بن زرارة، وذكوان بن عبد قيس مكّة في موسم من مواسم العرب وهما من الخزرج، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهراً طويلا، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث، وكانت الغلبة فيها للأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة يسألون الحلف على الأوس وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة فنزل عليه، وقصّ عليه ما جاء من أجله فقال عتبة بن ربيعة في جواب أسعد: بُعدت دارنا من داركم، ولنا شغلٌ لا نتفرغ لشيء، قال أسعد: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟ قال عتبة: خرج فينا رجُل يدّعي أنّه رسول الله، سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرق جماعتنا. فقال له أسعد: من هو منكم؟ قال: ابن عبدالله بن عبد المطلب، من أوسطنا شرفاً، وأعظمنا بيتاً. فلمّا سمع أسعد وذكوان ذلك، أخذا يفكّران فيه، ووقع في قلبهما ما كانا يسمعانه من اليهود، أنّ هذا أوانُ نبيٌ يخرج بمكّة يكون مهاجره بالمدينة. فقال أسعد: أين هو؟ قال عتبة: جالس في الحجر (حجر إِسماعيل) وأنّهم (أي المسلمون) لا يخرجون من شعبهم إِلاّ في المواسم، فلا تسمع منه، ولا تكلّمه، فإِنّه ساحر يسحرك بكلامه، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب. فقال أسعد لعتبة: فكيف أصنع، وأنا محرم للعمرة لابدَّ لي أن أطوف بالبيت؟ قال: ضَع في أُذنيك القطن. فدخل أسعد المسجد، وقَد حشا أُذنيه بالقطن فطافَ بالبيت ورسول الله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم، فنظر إِليه نظرة فجازه. فلمّا كان في الشّوط الثّاني قال في نفسه: ما أجد أجهَلَ منّي. أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا أتعرّفه حتى أرجع إِلى قومي فأُخبرهم؟ فأخذ القطَن من أُذنيه ورمى به، وقال لرسول الله (ص) : أنعِم صباحاً. فرفع رسولُ الله (ص) رأسَه إِليه، وقال: قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنّة، السلام عليكم. فقال له أسعد: إِلى مَ تدعو يا محمّد؟ قال النّبي (ص) : إِلى شهادة أن لا إِله إِلاّ الله، وأنّي رسول الله، وأدعوكم إِلى... (ثمّ تلا (ص) الآيات الثلاثة المبحوثة هنا والتي تتضمن التعاليم العشرة). فلمّا سمع أسعد هذا قال له: أشهد أن لا إِله إِلاّ الله، وأنّك رسول الله، يا رسول الله بأبي أنت وأُمي أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين أُخوتنا من الأوس حبال مقطوعة، فإِن وصَلَها الله بك، ولا أجدُ أعزّ منك، ومعي رجلٌ من قومي، فإِن دخَلَ في هذا الأمر رجوت أن يتمّم الله لنا أمرَنا فيك. والله يارسولَ الله، لقد كنّا نسمع من اليهود خبَرك، ويبشروننا بمخرجك، ويخبروننا بصفتك، وأرجو أن تكون دارُنا دارَ هجرتك عندنا فقد أعلمنا اليهودُ ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إِليك، والله ما جئتُ إِلاّ لنطلب الحلفَ على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل ممّا أتيت له. ثمّ أسلم رفيقُ أسعد - ذكوان - أيضاً - ثمّ طلبا من رسول الله (ص) أن يبعث معهم رجلا يعلمهم القرآن، ويدعو الناس إِلى أمره، ويطفىء الحروب، فبعث رسول الله (ص) معهما إِلى المدينة "مصعب بن عمير" ومنذئذ أُسست قواعد الإِسلام في المدينة وتغير وجه يثرب (3). ﴿وَأَنَّ هَذَا﴾ المذكور في السورة من بيان الدين ﴿صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾ حال ﴿فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ﴾ الطرق المختلفة ﴿فَتَفَرَّقَ﴾ تتفرق أي تميل ﴿بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ دينه ﴿ذَلِكُمْ﴾ الإتباع ﴿وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ الضلال عن الحق.