التّفسير
توقعات باطلة ومطاليب مستحيلة:
في الآيات السابقة تبيّنت هذه الحقيقة وهي: أنّنا أتممنا الحجّة على المشركين، وآتيناهم الكتاب السماوي (أي القرآن) لهدايتهم جميعاً، لكي لا يبقى لديهم أي عذر يبرّرون به مخالفتهم للرسالة ومعارضتهم للدعوة.
وهذه الآية تقول: ولكن هؤلاء الأشخاص المخاصمين المعاندين بلغوا في لجاجهم وعنادهم حدّاً لا يؤثّر فيهم حتى هذا البرنامجُ الواضحُ البيّنُ، وكأنّهم يتوقعون وينتظرون هلاكهم، أو ذهاب آخر فرصة، أو ينتظرون أُموراً مستحيلة.
فيقول أولا: (هل يَنظرون إِلاّ أن تأتيهم الملائكة) لتقبض أرواحهم.
(أو يأتي ربّك) إِليهم فيرونه، حتى يؤمنوا به.
ويراد من هذا الكلام في الحقيقة أنّهم ينتظرون أُموراً مستحيلة، لا أنّ مجيء الله سبحانه وتعالى أو رؤيته أُمور ممكنة.
وهذا النوع من البيان والكلام أشبه ما يكون بمن يقول لشخص مجرم معاند، بعد أن يريه ما لديه من وثائق كافية دامغة وهو مع كل هذا ينكر جنايته: إِذا كنتَ لا تقبل بكل هذه الوثائق، فلعلك تنتظر أن يعود المقتول إِلى الحياة، ويحضر في المحكمة ليشهد عليك بأنّك الذي قتلَته؟
ثمّ يقول: أو أنّكم تنتطرون أن تتحقق بعض الآيات الإِلهية والعلامات الخاصّة بيوم القيامة ونهاية العالم يوم تنسدّ كلُ أبواب التوبة: (أو يأتي بعض آيات ربّك) ؟
وعلى هذا الأساس فإِنَّ عبارة (آيات ربّك) وإن جاءت بصورة كليّة وعلى نحو الإِجمال، ولكنّها يمكن أن تكون بقرينة العبارات اللاحقة التي سيأتي تفسيرها، بمعنى علامات القيامة، مثل الزلازل المخيفة، وفقدان الشمس والقمر والكواكب لأنوارها وأضوائها، وما أشبه ذلك.
أو يكون المراد من ذلك المطاليب غير المعقولة التي يطلبونها من رسول الله (ص)، ومن جملتها أنّهم لا يؤمنون به إِلاّ أن تمطر عليهم السماء حجارة، أو تمتليء صحاري الحجاز القفراء اليابسة بالينابيع والنخيل!!
ثمّ يضيف عقيب ذلك قائلا: (يومَ يأتي بعضُ آياتِ ربّك لا ينفَعُ نفساً إِيمانُها لم تكن آمَنتْ من قبلُ أو كسَبتْ في إِيمانِها خيراً) فأبواب التوبة حينذاك مغلقة في وجوه الذين لم يؤمنوا إِلى تلك الساعة، لأنّ التوبة ساعتئذ تكون ذات صبغة اضطرارية إِجبارية، وفاقدة لمعطيات الإِيمان الإِختياري وقيمة التوبة النصوح.
هذا، ويتضح ممّا قيل أن عبارة (أو كسَبت في إِيمانها خيراً) تعني أنّ الإِيمان وحده لا ينفع في ذلك اليوم، بل حتى أُولئك الذين آمنوا من قبل، ولكنّهم لم يعملوا عملا صالحاً، لم ينفعهم في ذلك اليوم أن يعملوا عملا صالحاً، لأنّ أوضاعاً كتلك تسلبُ من الإِنسان القدرة على ارتكاب الذنب، وتقوده نحو العمل الصالح بصورة جبرية لا مفرّ منها، فلا يكون لمثل هذا العمل أية قيمة ذاتية.
ثمّ إِنّه في المقطع الأخير من الآية يوجه تهديداً شديداً إِلى هؤلاء الأشخاص المعاندين، إِذ يقول بنبرة شديدة: (قل انتظروا إِنّا منتظِرون).
لا فائدة للإِيمان بدون عمل:
إِنّ من النقاط الهامّة التي نستفيدها من الآية الحاضرة هو أنّ الآية تعتبر طريقَ النجاة منحصرة في الإِيمان، ذلك الإِيمان الذي يكتسب المرء فيه خيراً ويعمل في ظلّهِ عملا صالحاً.
ويمكن أن ينطرح هذا السؤال وهو: هل الإِيمان وحده غير كاف ولو خلّي من جميع الأعمال الصالحة؟
ونجيب: صحيح أنّ المؤمن يمكن أن يزلّ أحياناً ويرتكِبَ بعض الذنوب المعاصي ثمّ يندم على فعله ويعمد إِلى إِصلاح نفسه، ولكن مَن لم يعمل أيّ عمل صالح طوال حياته، ولم يستغل الفرص الكثيرة والكافية لذلك، بل على العكس من ذلك صدر منه كل قبيح ووقعت منه كل معصية، واقترفَ كل إِثم، فإِنّه يبدو من المستبعَد جداً أن يكون من أهل النجاة، ومن الذين ينفعهم إِيمانُهم، لأنّه لا يمكن أن نصدّق بأنّ شخصاً ينتمي إِلى دين من الأديان، ولكنّه لا يعمل بأي شيء من تعاليم ذلك الدين ولا مرّة واحدة في حياته، بل كان يرتكب خلافها دائماً، إذ إنّ حالتُه وموقفَه هذا دليلٌ قاطعٌ وبيّنٌ على عدم إيمانه، وعدم اعتقاده.
وعلى هذا الأساس يجب أن يقترن الإِيمان ولو بالحدّ الأدنى من العمل الصالح، ليدلّ ذلك على وجود الإِيمان.
﴿هَلْ يَنظُرُونَ﴾ ما ينتظر كفار مكة ﴿إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ﴾ لتوفيهم أو بالعذاب وقرىء بالياء ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ أي أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها وغيره ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ عنهم (عليهم السلام) أنه العذاب في الدنيا ﴿لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا﴾ لزوال التكليف ﴿لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ﴾ صفة نفسا ﴿أَوْ﴾ لم تكن ﴿كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ طاعة ﴿قُلِ انتَظِرُواْ﴾ إتيان أحد الثلاثة ﴿إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ ذلك.