لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
التّفسير رفض المفرّقين للصّفوف ونفيهم: تعقيباً على التعاليم والأوامر العشر التي مرّت في الآيات السابقة، والتي أُمِرَ في آخرها بإِتباع الصِراط الإِلهي المستقيم، وبمكافحة أي نوع من أنواع النفاق والتفرقة، جاءت هذه الآية تتضمن تأكِيداً على هذه الحقيقة، وتفسيراً وشرحاً لَها. فيقول تعالى أوّلا: (إِنَّ الذينَ فَرَّقوا دينَهم وكانوا شِيعَاً لستَ منهم في شيء) (1) أي أنَّ الذين اختلفوا في الدين وتفرقوا فرقاً وطوائف لا يمتون إِليك بصلة أبداً، كما لا يرتبطون بالدين أبداً، لأنّ دينك هو دين التوحيد، ودين الصِراط المستقيم، والصراطُ المستقيم ما هو إِلاّ واحد لا أكثر. ثمّ قال تعالى - مُهدِّداً مُوبِّخاً أُولئك المفُرِّقين ـ: (إِنّما أمرُهم إِلى الله ثمّ ينبّئهم بما كانوا يَفعَلون) أي أنّ الله هو الذي سيؤاخذِهم بأعمالهم وهو عليم بها، لا يغيبُ شيء منها. بحثان وها هنا نقطتان يجب الإِلتفات إليهما: 1 - من همُ المقصودون في الآية؟ يعتقد جماعةٌ من المفسّرين أنَّ هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى الذين اختلفوا وتفرّقوا إِلى فرق وطوائف مذهبية مختلفة، وتباغضوا وتشاحنوا وتنازعوا فيما بينهم. ولكن يرى آخرون أنّ هذه الآية إِشارة إِلى الذين يفرّقون صفوف هذه الأُمّة (الإِسلامية) بدافع التعصب وحبّ الاستعلاء، وحب المنصب والجاه. ولكن محتوى هذه الآية يمثل حكماً عاماً يشمل كل من يفرّق الصفوف، وكل من يبذر بذور النفاق والاختلاف بين عباد الله بابتداع البدَع، من دون فرق بين من كان يفعل هذا في الأُمم السابقة أو في هذه الأُمة. وما نلاحظه من الرّوايات المنقولة عن أهل البيت (عليهم السلام) وهكذا روايات أهلُ السنّة التي تصرّح بأن هذه الآية إِشارة إِلى مفرّقي الصفوف وأهل البدع في هذه الأُمّة، فهو من باب بيان المصداق (2)، لأنّه لو لم يُذكر هذا المصداق لظنَ البعض أنَّ المقصود بالآية هم الآخرون خاصّة، وأنّ الضمير عائد إِلى غيرهم فيبّرئوا بذلك ساحتهم. ففي رواية منقولة عن الإِمام الباقر (ع) في ذيل هذه الآية - على ما في تفسير علي بن إِبراهيم - قال في تفسيرها: "فارقوا أميرالمؤمنين (ع) وصاروا أحزاباً" (3). وهناك أحاديث أُخر رويت عن رسول الله (ص) حول افتراق هذه الأمّة وتشتتها وتشرذمها إِلى فرق ذكرها على سبيل التنبؤ، جميعها تؤيّد هذه الحقيقة أيضاً. 2 - بشاعة التفرقة وزرع الاختلاف هذه الآية تكرّر مرّة أُخرى - وبمزيد من التأكيد - هذه الحقيقة، وهي أنّ الإِسلام دين الوحدة والإِتحاد، وأنّه يرفض كل لون من ألوان التفرقة وإِلقاء الإِختلاف في صفوف الأُمة، وتقول لرسول الله (ص) : إِنّ عملك وبرنامجك لا يشابه عمل المفرقين للصفوف، ناشري الخلاف فيها مطلقاً، وانهم بالتالي لا يمتون إِليك ولا تمت إِليهم بصلة أبداً، وإِنّ الله المنتقم الجبار سوف ينتقم منهم، ويريهم عاقبة أعمالهم الشريرة. إِنّ التوحيد الحقيقي ليس واحداً من أُصول الإِسلام وقواعده فحسب، بل إِنّ جميع أُصول الإِسلام وفروعه، وجميع برامجه المتنوعة، تدور حول محور التوحيد، وتنطلق منه وتنتهي إِليه التوحيد روح سارية في كيان التعاليم الإِسلامية برمتها، والتوحيد هو الاساس الحضاري الذي تقوم عليه مبادىء الإِسلام عامته. ولكن هذا الدين الذي يتألف من أقصاه إِلى أقصاهُ من عنصر الوحدة والإِتحاد قد وقع اليومَ - مع شدة الأسف - فريسة بأيدي مفرّقي الصفوف، ومثيري الاختلاف بحيث فَقَدَ وجهه الحقيقي. فبيّن يوم وآخر ينعق ناعق، ويثير نغمةً جديدة خبيثة، ويقوم معقّد أو معتوه أو غبيّ ويخالف حكماً من أحكام الإِسلام، وبرنامجاً من برامجه، فيلتف حوله فريق من الجهلة والبسطاء، فيفرز تمزقاً جديداً. على أنّ للجهل الذي يعاني منه فريق من العامّة دوراً مؤثراً في هذه التفرقة والاختلافات، لا يقل عن تأثير ذكاء الأعداء وفطنتهم ويقظتهم في إذكاء التمزّق الداخلي. فربّما طرح البعض أُموراً أكل عليه الدهر وشرب، من جديد، وأحدثوا حولها ضجّة غبيّة ليشغلوا بها بال الناس، ولكن الإِسلام - كما صرحت الآية غريب عن أعمالهم، وأعمالهم غريبة عن الإِسلام، وستفشل في المآل كل محاولات المفرقين للصفوف، تذهب أدراج الرياح، ولن يحصدوا منها سوى الخيبة والخسران. حملات كاتب "المنار" الظالمة على الشّيعة: يعاني كاتُب تفسير المنار من سوء ظن بالغ الشدّة بالنسبة إِلى الشيعة، وبنفس القدر يعاني من الجهل بعقائد الشيعة وتاريخهم. ففي ذيل هذه الآية يعقد فصلا حول الشيعة تحت غطاء الدعوة إِلى الإِتحاد، ويصفهم بأنّهم يفرقون الصفوف ويخالفون الإِسلام، وأنهم ممن يعملون ضدّ الإِسلام ويقومون بنشاطات سياسية تخريبية تحت غطاء المذهب والعقيدة الدّينية، وكأنّ وجود كلمة "شيعاً" في الآية الحاضرة والتي ليس لها أي إِرتباط بقضية التشيع والشيعة ذكّره بهذه الأُمور التافهة، فاندفع يتّهم هذه الجماعة المؤمنة من دون تورّع. إِنّ كتاباته أفضل جواب على أقواله، وخير شاهد على عدم معرفته بعقائد الشيعة، وتأريخهم، وذلك لأنّه: 1 - يربط بين الشّيعة و"عبد الله بن سبأ" اليهودي المشكوك في أصل وجوده من وجهة نظر التّأريخ، والذي ليس له - على فرض وجوده - أدنى دور في تاريخ التشيع والشيعة! بينما نجده من جانب آخر يربط بين الشيعة و"الباطنية" بل حتى بين الشيعة والفرقة البهائية التي هي أعدى أعداء الشيعة. على حين تكشف أدنى معرفة بتاريخ الشيعة أنّ هذه الأحاديث والمزاعم ليست سوى مزاعم وأحاديث خيالية وهمية، بل محض افتراء وإِتهام واختلاق. والأعجب من كل ذلك هو أنّ هذا الكاتب يربط بين جماعة "الغلاة" (وهم الذين يرفعون علياً (ع) إِلى درجة الأُلوهية غلوّاً) وبين الشيعة في حين أن الفقه الشيعي أفرز فصلا للغلاة تحت عنوان إِحدى الفرق والطوائف المقطوع بكفرها، ويتهم الشيعة بأنّهم يعبدون أهل البيت، وغير ذلك من النسب الباطلة الرخيصة. إِن من المسلّم أن كاتب "المنار" لو لم يكن قد تأثر بالأحكام المتسرّعة والعصبيات العمياء وسمح لنفسه بأن يسمع عقائد الشيعة من أفواهم أنفسهم، ويأخذها منهم، ويستقرئها من كتبهم لا من كتب أعدائهم لعرف جيداً بأنّ ما نسبه إِلى الشيعة ليس مجرّد افتراءات وأكاذيب، بل هو مهازل مضحكة. والأعجب من ذلك كلّه أنّه عزا نشأة التشيع إِلى الإِيرانيين، على أنّ التشيع كان فاشياً في العراق والحجاز ومصر قبل أن يتشيع الإِيرانيون بقرون مديدة، والوثائق التّأريخية شواهد حيّة على هذه الحقيقة. 2 - إِنّ ذَنْب الشيعة هو أنّهم عملوا بما صدر عن رسول الله (ص) قطعاً، والذي ورد - كذلك - في أوثق المصادر السنيّة وهو قوله (ص) : "إِنّي تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي" (4). إِنَّ ذَنْب الشيعة هو أنّهم يعتبرون أهل البيت النبوي أدرى وأعرف من غيرهم بدين النّبي ورسالته، فجعلوهم الملجأ والمرجَع في المشاكل الدينية، وأخذوا عنهم حقائق الإِسلام. أنّ ذنب الشيعة هو أنّهم فتحوا باب "الإِجتهاد" أخذاً بحكم المنطق والعقل، والقرآن والسنة وبذلك منحوا الفقه الإِسلامي فاعلية متحركة، ولم يحصروه ب - "أربعة أشخاص" ويجبروا الناس على إِتباعهم. أليست خطابات القرآن والسنة وموجّهة إِلى عموم المؤمنين في جميع الدهور والعصور؟ أم هل كان أصحاب رسول الله (ص) يتّبعون في فهم الكتاب والسنة أشخاصاً معينين، فلماذا نحصر الإِسلام في حصار قديم من الجمود باسم "المذاهب الأربعة" الحنفي، الحنبلي، المالكي، الشّافعي؟! إِن ذَنب الشيعة هو أنّهم يقولون: إِنّ صحابة رسول الله (ص) مثل سائر المسلمين يجب أن يقيَّموا بمقياس إِيمانهم وفي ضوء أعمالهم، فمن وافق عمله الكتابَ والسنة كان صالحاً، ومن خالف عمله الكتاب والسنة - سواء أكان في عصر النّبي (ص) أو جاء بعده - رُفِضَ وطُرِدَ، ولا تكفي مجرّد الصحبة ليتستر بها المجرمون والجناة، فلا يجوز أن يقدَّسَ ويُحتَرم رجال كمعاوية الذي داس كلَ القيم وتجاهل جميع الضوابط الإِسلامية، وخرج على إِمام زمانه الذي رضيت به الأُمّة الإِسلامية، وعلى الأقل في ذلك العصر (ونعني علياً (ع) )، وأراق تلك الدّماء الكثيرة!... لا يجوز تقديس هذا الشخص وأمثاله لمجرّد صحبته لرسول الله (ص)، ولا بعض الصحابة المرتزقة ممن مالأه وسار في ركابه. نعم هذه هي ذنوب الشيعة وهم يعترفون بها، ولكن هل وجدتم في عالمنا هذا من هو أشدّ مظلوميّةً من الشيعة، بحيث تُعتَبَر أَفضَل نقاط القوّة في تاريخها وعقائدها نقاط ضعف، ويكيلون لها سيلا من الإِتهامات والأكاذيب، بل ولا يسمحون لها بأن تنشر معتقداتها في أوساط المسلمين وتعرضها عليهم بحرية، كما يفعل غيرها من الطوائف، بل يأخذون عقائدها من غيرها. ترى إِذا عملت جماعة بأمر نبيّهم في حين لا يعمل الآخرون به، فهل يعتبر عمل تلكم الجماعة تفريقاً للصفوف، وشقاً لعصى الأُمّة؟ وهل يجب صرفُ هذه الجماعة عن مسارها ليتحقق الإِتحاد، أو تقويم من يسلك غير سبيل المؤمنين؟ 3 - إِنَّ تاريخ العلوم الإِسلاميَّة يشهد أنّ الشيعة كانوا السبّاقين في أكثر هذه العلوم والمعارف إِلى درجة أنه اعتبِرَ الشيعة، البناة المؤسسين لعلوم الإِسلام. (5) إِنّ الكتب التي ألَّفها علماء الشيعة في مجال التّفسير والتّأريخ، والحديث والفقه، والأُصول، والرجال والفلسفة الإِسلامية، ليست أُموراً يمكن تجاهلها وإِنكارُها أو إِخفاؤها، فهي موجودة في جميع المكتبات (اللّهم إِلاّ اكثر مكتبات أهل السنة الذين لا يسمحون عادة بدخول هذه المؤلّفات والكتب إِلى مكتباتهم، في حين أننا نسمح بدخول مؤلفاتهم في مكتباتنا منذ قرون مديدة) وهذه الكتب شواهد حيّة على ما ذكرناه. فهل هؤلاء الذين صنّفوا وألّفوا كلَ هذه الكتب حول الإِسلام وتعاليمه، في سبيل نشرها وبثّها وتعميقها، كانوا أعداءً للإِسلام؟ وهل عرفتم عدوّاً يحبّ الإِسلام بهذه الدرجة؟! أم هل يستطيع أحدٌ أن يخدم الإِسلام الحنيف بمثل هذه الخدمةِ الكبيرةِ،إِذا كان محبّاً مخلِصاً، وعاشِقاً متيّماً؟! هذا ونقول في ختام حديثنا: إِذا أردتم أن نزيل كل هذا الاختلاف والفرقة تعالوا نعمل شيئاً آخر بدل التراشق بالإِتهامات، وذلك أن يتعرف بعضَنا على بعض ويفهم بعضَنا بعضاً، لأنّ مثل هذه النسب والإِفتراءات الباطلة ليس من شأنها أن تحقق الوحدة الإِسلامية، بل توجه ضربة قاضية إِلى أُسس الوحدة الإِسلامية. ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ﴾ اختلفوا فيه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ﴿وَكَانُواْ شِيَعًا﴾ فرقا كل فرقة تشيع إماما ﴿لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ أي من السؤال عن تفرقهم أو من عقابهم أو نهي عن قتالهم ونسخ بآية السيف ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ﴾ في مجازاتهم ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ بالمجازاة.