لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
في الآية اللاحقة إِشارة إِلى الرحمة الإِلهية الواسعة، وإِلى الثواب الإِلهي الواسع الّذي ينتظر الأفراد الصالحين المحسنين، وقد كمّلت التهديدات المذكورة في الآية بهذه التشجيعات ويقول: (مَن جاء بالحَسَنة فله عَشرُ أمثالِها). ثمّ قال: (ومن جاء بالسّيئة فلا يُجزى إِلاّ مثلها). وللتأكيد يضيف هذه الجملة أيضاً فيقول: (وهم لا يُظلَمون) وإِنما يعاقبون بمقدار أعمالهم. وأمّا ما هو المراد من "الحسنة" و"السّيئة" في الآية الحاضرة وهل هما خصوص "التوحيد" و"الشرك" أو معنىً أوسَع؟ فبين المفسّرين خلاف مذكور في محلّه، ولكن ظاهر الآية يشمل كل عمل صالح وفكر صالح وعقيدة صالحة أو سيئة، إِذ لا دليل على تحديد أو حصر الحسنة والسيئة. بحوث وها هنا نكاتُ يجب التَوجُّه إِليها والتوقف عندها: 1 - إِنّ المقصود من قوله: "جاء به" كما يستفاد من مفهوم الجملة هو أن يجيء بالعمل الصالح أو السيء معه، يعني إِذا مثل الإِنسان أَمامَ المحكمة الإِلهية العادلة يوم القيامة فإنّه لا يحضر بيد فارغة خالية من العقيدة والعمل الصالحين، أو عقيدة أو أعمال طالحة، بل هي معه دائماً، ولا تنفصل عنه أبداً، فهي قرينته في الحياة الأبديّة وتحشر معه. لقد استعمل مثل هذا التعبير في الآيات القرآنية الأُخرى بهذا المعنى أيضاً... ففي الآية (33) من سورة (ق) نقرأ قوله تعالى: (من خشي الرَّحمان بالغيب وجاء بقلب منيب) إِنَّ الجنّة لمن آمن بالله عن طريق الإِيمان بالغيب، وخافه وأتى إِلى ساحة القيامة بقلب تائب مملوء بالإِحساس بالمسؤولية. 2 - أجر الحسنة، عشرة أضعاف نقرأ في الآية الحاضرة أن الحسنة يُثابُ عليها بعشرة أضعافها، بينما يستفاد من بعض الآيات القرآنية أنه اقُتصِرَ على عبارة (أضعافاً كثيرة) من دون ذكر عدد الأضعاف (كما في الآية 245 من سورة البقرة) وفي بعض الآيات بلغ ثواب بعض الأعمال مثل الإِنفاق إِلى سبعمائة ضعف (كما في الآية 261 من سورة البقرة) بل ربّما إِلى أكثر من ذلك مثل قوله: (إِنّما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب) (6). إِنّ من الواضح أنه لا تناقض بين هذه الآيات أبداً، إِذ إِنّ أقل ما يعطى للمحسنين هو عشرة أضعاف الحسنة، وهكذا يتصاعد حجم الثواب مع تعاظم أهمية العمل والحسنة، ومع تعاظم درجة الإِخلاص، ومع ازدياد مقدار السعي والجهد والمبذول في سبيل العمل الصالح، حتى يصل الأمر إِلى أن تتحطم الحدود والمقادير، ولا يعلم حدّ الثواب ومقداره إِلاّ الله تعالى. فمثلا الإِنفاق الذي يَحظى بأهمية بالغة في الإِسلام يتجاوز مقدار ثوابه الحدّ المتعارف للعمل الصالح الذي هو عشرة أضعاف الحسنة، ويصل إِلى "الأضعاف الكثيرة" أو "سبعمائة ضعف" وربّما أكثر من ذلك. والاستقامة التي هي أساس جميع النجاحات والسعادات، ولا تبقى عقيدة أو عمل صالح ولا يستمر بدونها قد ذكر القرآن لها ثواباً خارجاً عن حدّ الإِحصاء والحساب. ومن هنا أيضاً يتضح عدم المنافاة بين هذه الآية وبين الرّوايات التي تذكر لبعض الأعمال الحسنة مثوبة أكثر من عشرة أضعاف. كما أنّ ما نقرؤه في الآية (84) من سورة القصص في قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خيرٌ منها) لا ينافي الآية الحاضرة حتى نحتاج إِلى القول بنسخ الآية، لأنّ للخير معنىً واسعاً يتلاءم مع عشرة أضعاف أيضأ. 3 - لماذا كفارة يوم واحد ستين يوماً؟ ربّما يتصور البعض: أنّ وجوب صوم "ستين يوماً" من باب الكفارة في مقابل إِفطار يوم من شهر رمضان، والعقوبات الأُخرى في الدنيا والآخرة من هذا القبيل، لا تتلاءم مع الآية الحاضرة التي تقول: السيئة تجازى بمثلها فقط. ولكن مع الإِلتفات إِلى نقطة واحدة يتضح جواب هذا الإِعتراض أيضاً وهي أنّ المراد من المساواة بين "المعصية والعقوبة" ليس هو المساواة العددية، بل لابدّ من أخذ كيفية العمل أيضاً بنظر الاعتبار. إِنّ إِفطار يوم واحد من أيّام شهر رمضان المبارك مع ماله من الأهمية، ليست عقوبته صوم يوم واحد بدله من باب الكفارة، بل عليه أن يصوم أيّاماً عديدة حتى تساوي مبلغ احترام ذلك اليوم من شهر رمضان المبارك، ولهذا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ عقوبة الذنوب في شهر رمضان أشد وأكبر من عقوبة الذنوب في الأيّام والأشهر الأُخرى. كما أنّ ثواب الأعمال الصالحة في تلك الأيام أكثر وأزيد، إِلى درجة أنّ ثواب ختمة واحدة للقرآن في هذا الشهر يعادل ثواب سبعين ختمة للقرآن في الأشهر الأُخرى. 4 - منتهى اللّطف الرّباني إِنّ النقطة الأجمل في المقام هي أنّ الآية الحاضرة جسّدت منتهى اللطف والرحمة الإِلهية في حق الإِنسان. فهل عرفت أحداً بيده كل أزمة الإِنسان وشؤونه، كما أنّه محيط بجميع أعماله وشؤونه، يبعث قادة ومرشدين معصومين لهدايته وإِرشاده، ليوفق إِلى الإِتيان بالعمل الصالح في هدي رُسُله، مستفيداً من الطاقة الإِلهية الممنوحة له، مع ذلك يثيبه على حسناته بعشر أمثالها، ولكنّه لا يجازيه على السيئة إِلاّ بمثلها، ثمّ يجعل باب التوبة ونيل العفو مفتوحاً في وجهه؟! يقول أبوذر: قال الصادق المصدَّقَ أي رسول الله: "إِنّ الله قال الحسنة عشر أو أزيد، والسيئة واحدة أو أغفرُ، فالويل لمن غلبت آحادهُ أعشارَه" (7). ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ فضلا ورفع أمثالها صفة لعشر ﴿وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا﴾ أي جزاء عدلا منه تعالى ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ بنقص ثواب وزيادة عقاب.