التّفسير
هذا هو طريقي المستقيم
هذه الآية والآيات الأُخر التي سنقرؤها فيما بعد والتي ختمت بها سورة الأنعام، تعتبر خلاصة الأبحاث المطروحة في هذه السورة التي بدأت وانتهت بمكافحة الشرك والوثنية، وتركزت أحاديثها على توضيح هذا الأمر.
فقد بدأت هذه السورة بالدعوة إِلى التوحيد ومكافحة الشرك، وختمت بنفس ذلك البحث أيضاً.
ففي البداية أمرت رسول الله (ص) بأن يقول في مواجهة معتقدات المشركين والوثنيين ومزاعمهم الجوفاء والعارية عن المنطق السليم: (قل إِنّني هداني ربي إِلى صراط مستقيم) أي طريق التوحيد، ورفض كل أشكال الشرك والوثنية.
والجدير بالذكر أنّ هذه الآية وطائفة كبيرة من الآيات السابقة واللاحقة لها تبدأ بجملة: "قُلْ" ولعلّه لا توجد في القرآن الكريم سورة كررت فيها هذه الجملة بهذا القدر مثل هذه السورة، وهذا يعكس في الواقع مدى شدّة المواجهة بين رسول الله (ص) وبين منطق المشركين.
كما أنّه يسُدُّ كل أبواب العذر في وجوههم، لأنّ تكرار كلمة "قل" علامة على أنّ كل ما يقوله لهم رسول الله (ص) إِنّما هو بأمر الله، بل هو عين كلام الله، لا أنّها آراء رسول الله (ص) وأفكاره وقناعاته الشخصية.
ومن الواضح أن ذكر كلمة "قل" في هذه الآيات وأمثالها في نص القرآن، إِنّما هو لحفظ أصالة القرآن، وللدلالة على أن ما يأتي بعدها هو عين الكلمات التي أُوحيت إِلى رسول الله.
وبعبارة أُخرى: الهدف منها هو الدلالة على أن رسول الله (ص) لم يحدث فيها أيّ تغيير في الألفاظ التي أُوحيت إِليه، وحتى كلمة "قل" التي هي خطاب إِليه قد ذكرها عيناً.
ثمّ إِنّه تعالى يوضح "الصراط المستقيم" في هذه الآية والآيتين اللاحقتين.
فهو يقول أوّلا: إِنّه الدين المستقيم الذي هو في نهاية الصحة والاستقامة، وهو الأبدي الخالد القائم المتكفل لأُمور الدين والدنيا والجسد والروح: (ديناً قيماً) (1).
وحيث أنّ العرب كانوا يكنّون لإِبراهيم (ع) محبّة خاصّة، بل كانوا يصفون عقيدتهم ودينهم بأنّه دين إِبراهيم هو هذا الذي أدعو أنا إِليه لا ماتزعمونه: (ملة إِبراهيم).
إِبراهيم (ع) الذي أعرض عن العقائد الخرافية التي كانت سائدة في عصره وبيئته، وأقبل على التوحيد (حنيفاً).
و"الحنيف" يعني الشخص أو الشيء الذي يميل إِلى جهة ما، وأمّا في المصطلح القرآني فيطلق هذا الوصف على من يعرض عن عقيدة عصره الباطلة ويولي وجهه نحو الدين الحق والعقيدة الحقّة.
وكأنّ هذا التعبير جواب وردّ على مقالة المشركين الذين كانوا يعيبون على رسول الله (ص) مخالفته للعقيدة الوثنية التي كانت دين أسلافهم من العرب، فقال النّبي في معرض الردّ على مقالتهم هذه، بأنّ نقض السنن الجاهلية والإِعراض عن العقائد الخرافية السائدة في البيئة ليس هو من فعلي فقط، بل كان إِبراهيم - الذي نحترمه جميعاً - كذلك أيضاً.
ثمّ يضيف للتأكيد قائلا: (وما كان من المشركين)، بل هو بطل الكفاح ضد الوثنية، وحامل الحرب ضد الشرك، الذي لم يفتأ لحظةً واحدة عن محاربته وكفاحه.
إِنّ تكرار جملة (حنيفاً وما كان من المشركين) في عدّة موارد من آيات القرآن الكريم مع قوله: "مسلماً" أو بدونها، إِنّما هو للتأكيد على هذه المسألة وهي أنّ إِبراهيم الذي يفتخر به العرب الجاهليون مبرّأ ومنزه عن كل هذه العقائد والأعمال الخاطئة (2).
﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا﴾ بدل من محل صراط أي هداني صراطا ﴿قِيَمًا﴾ فيعل من قام كسيد من ساد وقرىء بكسر القاف وفتح الياء مخففا كالقيام وصف به مبالغة ﴿مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ عطف بيان لدنيا ﴿حَنِيفًا﴾ حال من إبراهيم ﴿وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.