لا يوجد اتصال بالانترنت !
ستتم اعادة المحاولة بعد 10 ثواني ...
جاري التحميل ...
غير أن هذا المنطق المتين الذي لا يتزعزع غاظ فرعون بشدة، فالتجأ إلى استعمال "حربة" يفزع إليها المستكبرون عند الإندحار، فجابه موسى و (قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين). فأنا لا أعرف كلماتك، إنّما أعرف وجود اله ومعبود كبير وهو أنا... ومن قال بغيره فهو محكوم بالإعدام أو السجن!... ويعتقد بعض المفسّرين أن الألف واللام في "من المسجونين" هما للعهد، وهي إشارة إلى سجن خاص من ألقي فيه يبقى سجيناً حتى تخرج جنازته.(2) وفي الواقع كان فرعون يريد أن يسكت موسى بهذا المنطق الارهابي، لأن مواصلة موسى(ع) بمثل هذه الكلمات ستكون سبباً في إيقاظ الناس، وليس أخطر على الجبابرة من شيء كإيقاظ الناس!... الآيات 30 - 37 ﴿قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىْء مُّبِين(30) قَالَ فأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـدِقِينَ(31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ(32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيضَآءُ لِلنَّـظِرِينَ(33) قَالَ لِلْمَلاءِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَـحِرٌ عَلِيمٌ(34) يُريدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(35) قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَآئِنِ حَـشِرِينَ(36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّار عَلِيم(37)﴾ التّفسير بلادكم في خطر: رأينا في الآيات المتقدمة كيف حافظ موسى(ع) على تفوّقه - من حيث المنطق - على فرعون، وبيّن للحاضرين إلى أيّة درجة يعوّل مبدؤه على منطقه وعقله، وأن ادعاء فرعون واه وضعيف، فتارة يسخر من موسى، وتارةً يرميه بالجنون، وأخيراً يلجأ إلى التهديد بالسجن والإعدام!... وهنا يقلب موسى(ع) صفحة جديدة، فعليه أن يسلك طريقةً أخرى يخذل فيها فرعون ويعجزه. عليه أن يلجأ إلى القوّة أيضاً، القوّة الإلهية التي تنبع من الإعجاز، فالتفت إلى فرعون متحدّياً و (قال أو لوجئتك بشىء مبين)... وهنا وجد فرعون نفسه في طريق مغلق مسدود... لأن موسى(ع) أشارَ إلى خطّة جديدة! ولفت انظار الحاضرين نحوه، إذ لو أراد فرعون أن لا يعتدّ بكلامه، لإعترض عليه الجميع ولقالوا: دعه ليرينا عمله المهم، فلو كان قادراً على ذلك فلنرى، ونعلم حينئذ أنّه لا يمكن الوقوف امامه، وإلاّ فستنكشف مهزلته!! وعلى كل حال ليس من اليسير تجاوز كلام موسى ببساطة... فاضطر فرعون إلى الإستجابة لا قتراح موسى(ع) و (قال فأت به إن كنت من الصادقين). (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) "بأمر الله". ثمّ أظهر إعجازاً آخر حيث أدخل يده في جيبه (اعلى الثوب) وأخرجها فاذا هي بيضاء منيرة: (ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين). في الحقيقة إن هاتين المعجزتين الكبيرتين، إحداهما كانت مظهر الخوف، والأُخرى مظهر الأمل، فالأُولى تناسب مقام الإنذار، والثّانية للبشارة! والأُولى تبيّن عذاب الله، والأُخرى نورٌ وآية رحمة! لأنّ المعجزة ينبغي أن تكون منسجمةً مع دعوة النّبي(ع). "الثعبان" معناه الحية العظيمة، ويحتمل الراغب في مفرداته أن "الثعبان" من مادة (ثعب) المأخوذ معناه من جريان الماء، لأنّ حركة هذا الحيوان تشبه الأنهار المتحركة! والتعبير بـ "المبين" لعله إشارة إلى هذه الحقيقة! وهي أنّ عصّا موسى(ع) تبدلت إلى ثعبان عظيم فعلا، ولم يكن في الأمر من إيهام أو سحر. ولا بأس بذكر هذه اللطيفة الدقيقة هنا، وهي أنّ الآية محل البحث عبرت عن تبدل العصا بـ "ثعبان". أمّا الآية العاشرة من سورة النمل، والآية الحادية والثلاثون من سورة القصص، فقد عبرت عنها بـ "جان" "ما تجنّه(1) الأرض وما يمشي عليها من الأفاعي الصغار بسرعة وقفز". أمّا الآية العشرون من سورة طه فقد عبّرت عنها بأنّها "حية" "المشتقّة من الحياة". وهذا التفاوت أو الإختلاف في التعابير مثير للسؤال في بدو النظر، إلاّ أنّ الإختلاف أو التفاوت إنّما هو لبيان واحد من أمرين: 1 - لعله إشارة إلى حالات ذلك الثعبان المتباينة، ففي البداية تبدلت العصا إلى جانّ أو حية صغيرة، ثمّ بدأت تكبر حتى صارت ثعباناً مبيناً!... 2 - أو أنّ هذه الألفاظ الثلاثة "الثعبان، والجان، والحية" كلٌّ منها يرمز إلى بعض الخصائص الموجودة في تلك العصا المتبدلة إلى حالة جديدة! فالثعبان إشارة إلى عظمتها، والجان إشارة إلى سرعتها، والحية إشارة إلى حياتها! غير أن فرعون اضطرب لهذا المشهد المهول وغرق في وحشة عميقة ولكي يحافظ على قدرته الشيطانية التي أحدق بها الخطر بظهور موسى(ع) ، وكذلك من أجل أن يرفع من معنويات أصحابه والملأ من حوله في توجيه معاجز موسى ولفت نظرهم عنها، فقد (قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم). ذلك الإنسان الذي كان يدعوه مجنوناً إلى لحظات آنفة، وإذا هو الآن يعبر عنه بالعليم، وهكذا هي طريقة الجبابرة وأسلوبهم، حيث تتبدل كلماتهم في مجلس واحد عدّة مرّات، ويحاولون التشبث بأي شيء للوصول إلى هدفهم. وكان فرعون يعتقد أن اتهام موسى بالسحر ألصق به وأكثر قبولا عند السامعين، لأنّ ذلك العصر كان عصر السحر، فإذا أظهر موسى(ع) معاجزه فمن اليسير توجيهها بالسحر. ومن أجل أن يعبّىء الملأ ويُثيرَ حفيظتهم ضد موسى(ع) ، قال لهم: (يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون؟). والغريب في الأمر أن فرعون الذي قال هذا الكلام هو الذي كان يقول من قبل: (أليس لي ملكُ مصر) ؟! والآن حيث يرى عرشه متزعزعاً ينسى مالكيته المطلقة لهذه الأرض، ويعدّها ملكَ الناس، فيقول لهم: أرضكم في خطر، إن موسى يريد أن يخرجكم من أرضكم، ففكروا في حيلة!... فرعون هذا لم يكن قبل ساعة مستعداً لأن يصغي لأحد، كان الآمر بلا منازع، أمّا الآن فهو في حرج شديد يقول لمن حوله: "ماذا تأمرون"؟! إنّها استشارة عاجزة ومن موقف الضعف فحسب!... ويستفاد من الآية (110) من سورة الأعراف أنّ أتباع فرعون ومن حوله ائتمروا فيما بينهم وتشاوروا في الأمر، وكانوا في حالة من الإِضطراب النفسي بحيث كان كلُّ منهم يسأل الآخر قائلا: وأنت ما تقول؟ وماذا تأمرون؟! أجل هذه سُنّةُ الجبابرة في كل عصر وزمان... فحين يسيطرون على الأوضاع يزعمون أن كل شيء لهم، ويعدون الجميع عبيدهم، ولا يفهمون شيئاً سوى منطق الإستبداد. إلاّ أنّهم حين تهتزّ عروشهم الظالمة ويرون حكوماتهم في خطر، ينزلون مؤقتاً عن استبدادهم ويلجأون إلى الناس ويتحدثون باسم الناس، فالأرض أرض الشعب، والحكومة تمثل الشعب ويحترمون آراء الشعب، ولكن حين يستقر الطوفان ويهدأ التيار، فاذا هم أصحاب الأمس و"عادت حليمة إلى عادتها القديمة". ورأينا في عصرنا بقايا السلاطين القدامى كيف يحسبون أن الدولة ملكهم المطلق حين تُقبل الدنيا عليهم، ويأمرون من يرفض إتباعهم بالخروج عن تلك البلاد قائلين له: اذهب في أرض الله العريضة الواسعة، ففي هذا البلد لابدّ من تنفيذ ما نقول لا غير. ورأينا هذه الحالة عندما بدأت هبّت رياح الثورة الإسلامية كيف أن الطواغيت أخذوا باحترام الشعب وتعظيمه، وحتى أنّهم أقروا بذنوبهم وطلبوا العفو، ولكن الناس الذين عرفوا سجيّتهم طوال سنين مديدة لم ينخدعوا بذلك. وبعد المشاورة فيما بينهم التفت الملأ من قوم فرعون إليه و (قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين).(2) أي أمهلهما وابعث رسلك الى جميع المناطق والأمصار. (يأتوك بكل سحّار عليم). وفي الواقع أن رهط فرعون إمّا أنّهم غفلوا، وإمّا أنّهم قبلوا اتهامه لموسى واعين للأمر. فهيأوا خطةً على أنّه ساحر، ولابدّ من مواجهته بسحرة أعظم منه وأكثر مهارة!... وقالوا: لحسن الحظّ إنّ في بلادنا العريضة سحرةً كثيرين، فلابدّ من جمع السحرة لإحباط سحر موسى(ع). وكلمة (حاشرين) مأخوذه من مادة (الحشر) ومعناه التعبئة والسوق لميدان الحرب وأمثال ذلك، وهكذا فينبغي على المأمورين أن يعبئوا السحرة لمواجهة موسى(ع) بأيّ ثمن كان!... ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ ممن عرفت حالهم في سجوني، كان يلقى الشخص في هوة عميقة فردا حتى يموت فهو أبلغ من لأسجننك.